الأحد، 18 مارس 2018

ألعاب مكسورة



«صدري كالحديقة. صدري كالحديقة مغمور بموسيقى مكتوبة. وقلبي اليوم شجرة كبيرة قديمة رأسها محاصرةٌ بسقف لا وجود له. تهرب العصافير وتنام في جحورها الخفية. أقرأ الموسيقى في رأسي. أوراقي إما قصيرة أو صفراء جافة. لا يمكنني نطق هذه النوتة أو غناء ذاك المقام. قلبي اليوم شجرة تسيل الموسيقى في أوردتها دون أن يسمعها أحد. يهرب قلبي وينام في جحره. شجرة عتيقة هائلة ملتفة مثل قطة كانت مذعورة قبل أن تغط في نومها -في جحرها، تحت أغطية دافئة منطفئة الألوان. أقرأ خمسة أبياتٍ من الشعر. أعزف سلمّا موسيقيًا واحدًا؛ بطيئًا ومهزوزًا. صدري حديقة والحزن جدارٌ من الضباب. الحزن بحر رأسي تسقط أمواجه ولا تقوم. يتسرب الملح بين جذور حديقتي ويجرح اوردتي. هذا النصّ مكسور ورمادي وملوّث. أذناي أيضًا مكسورتان الليلة، وأصابعي، وقدرتي على الكتابة. أقرأ خمسة أبيات من الشعر: هرميا تصحو من النوم مفزوعة لأن أفعى قد التهمت قلبها الصغير في المنام بينما جلس لايسندر يشاهد مصرعها دون تأثر*. بصعوبة أصعد من الدو إلى الدو، نوتاتي مهزوزة ومترددة وأحيانًا تتوه في صدري فلا تعبر نحاس الترومبيت. أكتب سطرًا واحدًا يقول «هنا الغابة، مرحبًا بكم. جميع الأقنعة التي قد ترتدونها هنا قد تكون حقيقية.» وأنام ساعات طويلة بجوار القطة البيضاء المرتابة دائمًا. أنام أطول مما ينبغي. تمل القطة من النوم فتخمش الباب الأبيض المغلق وتشد أصابعي وتموء وتموء كي أنهض من سريري المنخفض وأُدخل النور. أتأرجح حتى الباب. أغمر نفسي في الماء البارد. أغمض عيوني جميعًا. صدري. البحر. لحاء الشجرة. أصابعي. اللغة. وجودي. القمر الأحمر المعلق في سماء الليلة. الليلُ. الليلة أكتب. أربع دقائق بعد تمام الحادية عشرة. يسيل الوقت. يجرف أوراق الحديقة ويلتهم خضرتها. يزحف الوقت فوق الشجرة في حديقتي حتى يتشقق لحائها وتهتز. يجري الوقت ويطوقني. ينزع عني ثيابي. يلتهم الشمس. يخصم من مساحة الحديقة يومًا آخر. يقطع حبل الأرجوحة. يلوث زجاج شباكي الوحيد. يعصف بعواميد الكتب الصاعدة من أرضية غرفة الدراسة. يتعب الوقت ويتسلل إلى فراشي. ينسى الوقت نفسه ويبلل فراشي. يختبئ ويتركني في أرق أنتظر جفاف الملاءات والأغطية. يدور العالم. تنهض شمس. لا نوم الليلة. ما زال النص 
مكسورًا كوجهي. ما زال 
النصُّ مكسورًا
 كوجهي.
كوجـ
هي
مازال
النصّ
مكسـ
ورً
ا.
أ
نا
أعبث
فقط أعبث
مثل طفل يحاول
أن يخدع طفلة كي تغمض 
عينيها وتتظاهر أنها لا تعرف خلف أي الأشجار سيختبئ (...) وصدري كالحديقة. والقلب شجرة. والبحر العمودي تهبط أمواجه ولا تقوم. والملح في أوردتي –يشبه الدم- والنهر يجري فيه الوقت –سائلًا- لا يتك ولا يدق. تتصاعد الحديقة كالدخان. موسيقى الحديقة تلذع كحبة فلفل حارة. طيور الحديقة تموت مرتاحة في نومها داخل جحورها. الشجرة العتيقة تخلع جلدها دون اكتراث. أنبش أرض الحديقة باحثًا عن مفتاح للنص أو خاتمة تؤطر شتاته ولا أجد. النص مكسور مثل صورتي في عيني. والكتابة تزور حديقتي حين تريد وتحط حيث لا تطالها أصابعي. وأنا –أسير على أرض ضيقة وخطيرة كحبل مشدود بين شجرتين عتيقتين هائلتين فوق غابة ممتدة كمحيط من الأمواج الخضراء والكلمات والقوارب الصغيرة المهجورة...»

                                                                                                                         القاهرة - 16 مارس 2017




* الأبيات المقصودة من مسرحية حلم ليلة منتصف صيف، للزميل شكسبير طبعًا:
"Help me, Lysander, help me; do thy best
To pluck this crawling serpent from my breast!
Ay me, for pity; what a dream was here?
Lysander, look how I do quake with fear:
Methought a serpent ate my heart away
And you sat smiling at his cruel prey."
A Midsummer Night's Dream (2.2.151-6)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق