الخميس، 14 يوليو 2016

ذاكرتي المزيفة، أو صوت بيبه



Hope I - Gustav Klimt



الحقيقة أنني جلست لأكتب أن صوتي أحيانًا ما يأتيني من تحت ماء مجازي يغمرني. الصوت حقيقي. تنفسي مثلًا. ارتداء سمّاعات سواداء صغيرة عازلة للأصوات الخارجية قد ينتج هكذا تأثير. لكن اليوم بدت التجربة مختلفة للحظة قصيرة. بدا الصوت آتيًا من داخل جسدي المغمور في جسد بحر حقيقي هادئ. ارتبكت حين انتبهت مرة أخرى لجلوسي على الكرسي الخرزان والطاولة الخفيفة. ثم ملأني حنين غير مفسر لصوت شيريهان وعبلة كامل وأخريات في عرق البلح وهن يغنين بيبه. «بيبه والسمن سايح/ سايح لفوق» أكتب بيبه والسمن سايح في شريط بحث جوجل، أقرأ النتائج: «أغنية بيبة الأصلية، جودة عالية» «بيبه عرق البلح» «الأغنية البديلة: بيبه –شيريهان وعبلة كامل» لكن ما يلفت نظري فجاة هو مدونة قديمة، ربما مهجورة اسمها «مرارة روح» فقط يقتبس صاحبها عنوان الأغنية، ويضع رابطًا معطلًا لتسجيل لدنيا مسعود وهي تغني بيبه في 2009. أبحث عن التسجيل في أماكن أخرى حتى أجد أكثر من تسجيل لعدد من الحفلات. لكن أداء دنيا مسعود يبدو أسرع وأكثر احتفالية من بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. يعرف صاحب مرارة روح نفسه بأنه غجري لا بيت له، عليك أن تتحمل مسؤولية الجلوس معه وحدك، فهو سيسرق ملابسك ويرتديها إذا ما لائمته. يكتب هذا التعريف بالإنجليزية، ويستخدم علامات ترقيم إنجليزية وسط نصه العربي القصير. لكنني أستمر في البحث عن نسخة بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. ربما هي خدعة أخرى من خدع الخيال؛ أو أنني فعلًا تلصصت على فتاة ساهية تغني بيبه على مهلها وتبكي خلف أشجار البرتقال في حديقة المكتبة. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة غير الخيال. أخبرتني السيدة التي تجلس في الجهة الأخرى من العالم أنها لن تتمسك بي طويلًا إذا ما تماديت في أفعال التراخي. قالت «يا بني» لم أتوقع ان تتمسك بي للحظة واحدة أخرى. قالت السيدة اكتب، انت ممتلئ بالطاقة والموهبة. قالت ترجم، لغتك جميلة ومحكمة. تنهدت الفتاة الباكية خلف صف أشجار البرتقال ونكشت في العشب بأصابعها البيضاء الدقيقة. ابتسمت أمي وأغلقت الباب ونزلت درجات السلم على مهلها في هدوء. صفق الأخ الأصغر باب غرفته في عنفوان مضحك وغضب ممسرح. وجلست أنا، أو هربت منهم جميعًا. بيبه والسمن سايح. تستكشف الأخت الصغرى عتبات القراءة، وتغيب الأخت الأكبر ساعات طويلة تغزل خيوطها الملونة الجديدة. بيبه والصعيد مات. يحمل أبي سكينه اللامعة، ويقطع الحائط قطعًا صغيرة ملائمة للأكل. يقطع الأشجار، وقطعة الأرض، والحيوانات المدجنة والسكاكين الأصغر وقواعد النحو. رشة شطة حمراء صغيرة، تصبح المكونات جميعها متشابهة. بيع النخل يا أحمد علي، بيع نخلنا كله. وأجلس أنا تحت أكوام قطع الأحاجي التي تحيط بمقعدي، أترجم دماءً ودموعًا تسيل من تقرير مكتوب بعربية ركيكة إلى إنجليزية متماسكة. وأحاول أن أعزل نزفه عن مشروع مقالة أحاول كتابتها منذ أسابيع طويلة. تسألني السيدة الأخرى عن مقالي الموعود فأهرب منها، وأتمادى في الهرب. يا أحمد علي يا أحمد علي، النخل راح ضله. وحين أحاول أن أتكوّر في بطن الماء أجد الشاطئ ضحلًا. يقيدني أبي من قلبي. يقول لا تذهب فيبلعك الغياب. لا تحاول قد تلتهمك الغربة. ولا أحاول. لكن قطع الأحاجي تذوب، مثل قوالب شمع متقنة الصنع. تذوب وتتمازج. تحتال الأحجية على نفسها، تتماسك دون أن تتحدث إلي، أو إلى أي أحد. كيف أحل قطع الأحجية المنصهرة داخل بعضها البعض؟ تذوب الأحاجي وتصبح نجمًا صغيرًا معلقًا في سقف غرفتي الفستدقية في خيالي، يملأ فضائها؛ ويأتي الليل فأصبح قمرًا باردًا وأغرق، أنا والصوت الذي أحمله في صدري والكتابة المعلقة على أطراف أصابعي، نغرق سويًا في جحيم نجم الأحاجي. تغلفني صهارة الأحاجي بطبقات ملونة، مثل أصداف لينة تتطابق مع ثنايا جسدي الأبيض الممتلئ. أتكور داخل نجم الأحاجي، وداخل جسدي؛ أتكوّر داخل رحم الأصوات. طبقات الشمع تسد مداخل حواسي جميعها، فقط أنصت للصوت القادم من هناك البعيد، من داخلي أنا. يأتيني الصوت غامضًا، مثل نفسٍ أخرى ظهرت فجأة تهمس من تحت ماء مجازي يغمرني. بيبه والسمن سايح. سايح لفوق. سايح لفوق. تطلع الشمس في عربة تجرها العصافير الرمادية الصغيرة. تبكي شمس الصباح فتركض العصافير في دهاليز السماء تبحث عمّا يلهيها. آسف، العصافير لا تركض. تقفز العصافير الرمادية الصغيرة بين السماوات الهشة المرتبة فوق بعضها؛ تهبط السلالم المصنوعة من أوراق شجرة التين. يحط عصفور رمادي صغير على عتبة شباك الغرفة في خيالي. يحرك رأسه في عصبية. يتقافز في خط أفقي محاولًا التلصص. محاولًا الإنصات للصوت المكتوم الهامس بالداخل. يهرب العصفور. –أو هكذا يبدو- يرجع العصفور فجأة. يتعلق بأصابعه المخلبة الصغيرة على وجه الشباك، يتعلق مقلوبًا. يحرك رأسه في عصبية، ينظر بعين واحدة في كل مرة. يرفع رأسه نحو الشمس المتكئة على بر النيل الغربي –نعم الغربي لأن هذه الجهة من بلدتي الصغيرة مشيدة فقط في خيالي، خلف شجرة البونسيانا التي لم تعد موجودة هي أيضًا- فتسكت الشمس، وتصمت العصافير والسماوات الصغيرة وجيوش الجيران المزعجين. يغمض العصفور عينيه وينقر وجه الشباك نقرة واحدة فيتداعى عالم الغرفة [سكتة] ولا ينهار. –هل من حقي أن أضيف توجيهات مسرحية إلى نصٍ منزوع الهوية؟ وهل يضيف المسرحيون توجيهاتهم في متن النصوص؟- عالم الغرفة لا يتداعي فجأة [كما قد تفترض الصورة المعتادة لمثل هذه المشاهد]. فقط يتفكك؛ ينفصل؛ يتمايز. الألوان تتنافر وتبتعد، خيوط النسيج تتخلى عن بعضها، يسيل الغراء وتخرج المسامير الصغيرة من أخشاب الشباك وأركان السرير والكرسي والطاولة. وينطفئ نجم الأحاجي. تتقاطر الأحاجي عن ظهري وبطني، ومن فتحات أذني وعيني ثم تُخلي تجويف صدري. تتخلى الحوائط عن تماسكها، يسيل الاسمنت ثم يتفكك بدوره إلى ماء ورمل وهبو رمادي دقيق. تصّاعد قطع الأحجية وتسقط على سقف الغرفة، ترسم غابة صغيرة  وتتركني مغلفًا في صوتي، معلقًا في الفضاء الذي كانت تحتويه الغرفة. يقفز العصفور فوق مفردات الغرفة ويحط فوق الجسد الأبيض المغلف في الصوت المكتوم –جسدي. يحرك العصفور رأسه في عصبية، يصدر صوتًا لا يشبه العصافير، ويعض صوتي بمنقاره الدقيق ويغرس فيه أصابعه المخلبة ويشد بكل قوته، بمنقاره ورقبته وعضلات صدره وسيقانه الدقيقة. ينتزع مزعة بحجم منقاره فينفجر كيس الصوت ويتمزق، يسقط الجسد، أذرعه وسيقانه ثقيلة ومرتخية –جسدي. ثم تسّاقط الأعين والآذان [أتركها في صيغة الجمع لسبب غير معلوم، ربما ملائمة صوتها لاندفاع النص الذي أكسره الآن؟] ثم قطع الجلد، ثم الأنف والشفاه وأسنانه الضعيفة وألسنته العديدة. ثم تصّاعد قطع الجسد وتسقط في الغابة المعلقة على سقف الغرفة، تنغرس بين الأشجار أو تلتحم بأطراف أغصانها وتتدلى، تسّاقط الأضلع والأحشاء، يسّاقط الجسد –جسدي، ويملئ الفراغ بيني وبين الغابة. كل المفردات تفككت عدا الصوت –صوتي الأزرق- بقي معلقًا في مكانه، يهتز؛ لا يسقط أو ينهار. يصدر الطائر صوتًا لا يشبه العصافير، فتفيض العصافير عبر كل السماوات الصغيرة، تنزع الأعين والآذان عن أغصان الشجر، تمزق الأحشاء المعلقة بين شجرتين، تُفكك القلب إلى خيوط صغيرة، تحمل الأصابع وأسنان القلم وحروف اللسان؛ تحمل العصافير ما تحمله وتطير تعصف بفضاء غرفتي ثم تندفع داخل قلب الغابة النابتة على سقف الغرفة وتغيب، تنظف العصافير جميع أركان الغرفة وثناياها، تنظف جميع آثار غلالة الصوت التي غلفت جسدي، جففت قطرات الدم الصغيرة المعلقة في فضاء الغرفة وحملتها بعيدًا. تأكدت من محو بصمات أصابعي جيدًا، جمعت ريشاتها التي سقطت. خلعت أوراق الأشجار، ثم وريقاتها، ثم الأغصان والجذوع. كأن الغابة الصغيرة والغرفة الصغيرة والعصافير والسماوات انفجرت إلى الداخل، تداعت على نفسها حتى اختفت. وبقي الصوت –صوتي- معلقًا وحده، ينبض في الفضاء الأبيض. [هل تؤثر القفزة من زمن المضارع إلى الماضي على إيقاع النص، هل تفسده؟] تركض العصافير، وتنثر ما جمعته في خيط طويل ممتدد بين النهار والليل؛ تنثر الألعاب الغرائبية أمام الشمس، فتتوقف عن بكائها، وتسيرُ، طفلةً مسحورةً على الدرب المخادع. تمرُّ الشمس أمام فضائي الأبيض ويسقط نورها دون أن تدري على الصوت المعلّق –صوتي- فينفذ خلاله وينثر ظله الشفاف، يطلي به ذكرى مساحاتِ غرفة لم تكن/ لم تعد موجودة. تعبر الشمس، وينسحب نورها. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة إلا صوتي العاري المكشوف؛ لا شيء حقيقي غير الحروف السابحة حول الصوت محاولة تكوين نفسٍ جديدة سليمة. عين، وياءٌ، نون. همزةٌ ذالٌ نون. قاف لام باء/ قلب. قـ ـلـ ــم. خطوة. صوت. الصوت يهمس. الصوت ينبض. الحرف يخطو. القلم يدور. بيبه (...). 

الجمعة، 8 يوليو 2016

كيف تعثرت ليسيل ميمنجر بأصابع أحمد حوزة؟


الجمعة 8 يوليو 2016، العاشرة مساءً
(1)
   [.....]

(2)
هل كتبت أنني جلست الأسبوع الماضي وترجمت فصل التمهيد في رواية سارقة الكتب؛ يا تُرى كيف يكون لون صوت الموت، راوي الحكاية. كيف كان الموت ليصف لون السماء حين رآني أحدق من نافذة الميكروباس الأبيض، أراقب كيف تعبر السيارات في قوس واسع حول جثة الرجل المسجى بصفحات جريدة الصباح –هي أقصى فعلٍ من أفعال المواساة استطاعت إنسانية العابرين أن تخرجه من قلوبهم- كأن الموت عورةٌ تبرع أحدهم بتغطيتها بحبر سطور الجريدة ثم تجاهلها الجميع. يتعسر علي أن أضع ذلك المشهد في كلمات عادية؛ الصورة في ذهني ما زالت تتغير كقدر يغلي على النار منذ عامين. أستبدل الجثة بشجرة؛ لو كانت شجرة لانتبهوا سريعًا وقطعوها. لكن الرجل كان جثة ولم يكن شجرة. هل كان الراجل خفيًا. هل كان صخرة. هل كنت أنا الصخرة. قرأت في كتاب ما أن متخصصي علم النفس يفسرون مثل هذا الفعل بما يسمى «تأثير العابرين»: لا أحد يتدخل في نهاية الأمر، لأن كلًا منهم يعتمد على ظنه أن شخصًا آخر سوف يبادر بتوفير المساعدة الكافية بكل تأكيد؛ إذًا لا ضرورة لما يمكنني تقديمه. لكن التنظير ينهار أمام معاينة الحقيقة. جلست جوار أبي بالأمس وأخبرته أن الأدب المقارن قد يكون أن أقرأ رواية سوزاك، ثم أطرح أنها تعبر عن اللحظة الواقعة هنا في في مصر، وأن أستطيع الدفاع عن هذا الطرح في جدل متماسك مُقنع. محاولات أبي الدائمة لفهم عالمي ومشاركتي لما أراه وما أخطط له تسعدني دائمًا. الحقيقة أن أبي هو أفضل الأباء الذين عرفتهم، أكتب هذا بكل سلاسة ودون انحياز أو تردد. سأختار أبي في كل حياة يُسمح لي فيها أن أختار أبي. إذًا فقد جلست وأنصت جيدًا لصوت زوساك، ثم صوت الموت، ونظرت إلى عالم الرواية عبر عيونه. حين قرأت الرواية منذ تسعة عشر شهرًا أردت بشدة أن أساهم في كيان ذلك العمل بأكثر من القراءة. يمكنني أن أتناوله في دراستي، أو يمكنني –ربما لو كنت أقوى وأشجع- أن أترجم هذا النص الفاتن. يبدو أنني تغيرت كثيرًا في هذه الشهور العديدة. ربما أصبحت أكثر استيعابًا لروح الترجمة، أصبحت أدواتي أكثر ألفة وصلةً بي؛ لكن هل أصبحت أقوى وأشجع؟ فاجأتني السلاسة التي ترجمت بها النص رغم أنني لم أعد قرائته بعد تلك المرة الأولى. افتتاني بهذا النص جعلني أعيد النظر فيما يصفه الأكاديميون بالـ«ثقافة الشعبية» جعلني أعيد النظر فيما أريد أنا من كتابتي أن تكون. واستغراقي في هذه الترجمة جعلني أعيد سؤال نفسي «هل تهرب بالترجمة من الكتابة؟». إذًا فقد جلست، وأنتجت ترجمة ترضيني خلاف العادة. وعزمت على الاستمرار في ترجمة الرواية لأجل متعتي الشخصية أولًا. ربما لأجل شيء آخر يستعصي عليّ تحديده الآن. الآن يتردد صوت الحكاية في رأسي، أترجم ألوان الصور والخطوات والأصوات المتشابكة إلى علامات الرواية وأبجديتها. أنا الآن أقربُ لذلك العالم المبني في المساحات الوسيطة بين الحقيقة والخيال مما أنا أقرب للكرسي الخشبي والطاولة الخفيفة التي أستند عليها. هل أعيش لحظة مهمة الآن ساكتب عنها لاحقًا؟ هل سأقتبس هذه السطور القليلة في مقالة أو تدوينة ما بعد شهور ستة أو بعد سنة؟ هل سأكمل ما بدأته أم سأتخلى عنه كما هي عادتي الوسخة. يمكنني فقط أن أصف غرابة اللحظة. كيف تنهال علي أسئلة عديدة غير متوقعة، وكيف تنهار علي مشاهد الرواية التي أشتبك معها وصورها، كأنها تقاوم الترجمة أو تقول أنها أكبر وأبعد مما يمكنني حمله من بستان لغة زوساك إلى لغتي. أفكر أنني أحاول أن أبني بيتًا من القرميد، لكن يبقى بمقدور من يصعد درجات سلالمه أن يسمع أزيز ألواح الخشب في بيت مشيّد في زمان ومكان آخرين سابقين. هذا هو نوع السحر الذي أمتلكه بين يدي. هذا هو الفعل المدهش الذي أدرب نفسي لأجله منذ حيواتٍ عديدة. فمتى أصبح أنا مصدرًا للسحر؟ 

ارتديت جلد ليسيل (الآن علي أن أسأل هل تنطق ليزيل أو ليسيل) وركضت في شوارع المدينة، سرقت عددًا قليلًا من الكتب. هل أكذب حين أقول أن زوساك هو من ورطني في هذه الفعلة المشينة. لا يمكنني أن أفسر هذه الفعلة أو أن أصف الرغبة الجارفة التي دفعتني لتجربة سرقة الكتب. لكنني فعلتها على أية حال والغريب أنني لست نادمًا. إطلاقًا. غياب مثل هذا الندم يخيفني أحيانًا. كأن أسرق كتابًا من شخصٍ تعرفت عليه للتو. أنفّذ غرضي، وأراهن نفسي على نجاح خدعة بصرية مرتجلة. لا أصدق أنني أقدمت على ذلك فعلًا. سرقت كتابه وتجولت لساعات في وسط البلد، اشتريت حزمة وردٍ بلدي ثم ركبت من العتبة متجهًا إلى محطة الأهرام. كان الخط الثالث ما يزال فارغًا وشبه مجهول في ذلك الوقت، جلست على مقعد فارغ ثم جلس فلان إلى جواري في آخر لحظة قبل أن ينطلق القطار. «إيه الصدفة الحلوة دي» قالها وابتسم، ثم سألني عن الكتاب الذي أحمله في يدي؛ أريته له فابتسم مرة أخرى وأخبرني أن لديه نسخة مماثلة من الكتاب ذاته. لا يدري أنه ينظر إلى نسخته الخاصة. ثم قضينا المسافة في الحديث عن تقنية الكاتب في بناء رواياته السابقة، وكيف يزعجني أنه اختار تغيير عنوان الرواية في هذه الطبعة الجديدة. انتهت الرحلة. تبدو الذكرى غريبةً الآن بعد كل هذا الوقت كأنها تخص أحدًا غيري. كأنها تخص سارقة الكتب. هل جرب زوساك أن يسرق كتابًا ليختبر ما شعرت به ليسيل حين سرقت كتابًا من مكتبة بيت العمدة؟ كما قلت، لا أشعر بأي ندم، بالتالي لا ذنب، ولا بارانويا تعاقبني بها نفسي كما جرى للفتاة. هل يمكنني الآن أن أعترف أن بداخلي لصًا صغيرًا يتسلى بالجريمة. متأكد أنني كتبت ذلك من قبل في أحد دفاتري. إذًا فقد قرأت كتابًا فاتنًا، أردت أن أشتبك معه ولكن كنت أقل شجاعة في ذلك الوقت، ثم سرقت عددًا من الكتب لأجل التمادي في اختبار ذلك النص الفاتن؛ ثم قضيت شهورًا طويلة أدور حول رغبتي ولا أقترب منها؛ ثم جلست وهربت أخيرًا إلى الترجمة التي أشتهيها؛ وها أنا أنظر إلى تلك البداية في مرآة الكتابة. أعلم أن هذه اللحظة ستبدو مثل ندبة مغوية للمس على صدري. يتبقى الآن أن أتابع السير على هذه الدرب حتى نهايتها بلا كلل. إلى أين قد تقودني الحكاية، وإلى أين ستقودني؟


[يقول الراوي]
آخر مرة رأيتها كان الأحمر. كانت السماء كحساء، يغلي ويبقبق. كانت محروقة في بعض المواضع. كان هناك فتات خبز أسود، وفلفل، منثور ومموه عبر الحمرة.
في وقت مبكر كان أطفالٌ يلعبون الحجلة هناك، في الشارع الذي بدا كصفحات ملوثة بالزيت. حين وصلت كان ما زال بإمكاني أن أسمع الأصداء. الأقدام تنقر على الأرض. أصوات الأطفال يضحكون، والابتسامات كالملح، لكنها تذوي بسرعة
ثم، قنابل.
هذه المرة، كل شيء كان متأخرًا. جدًا.
صافرات الإنذار. صراخ صافرة الغارة في الراديو. متأخرين. جدًا.
في ظرف دقائق، تلال الخرسانة والتراب تراكمت وتكومت. الشوارع كانت أوردة ممزقة. جرى الدم حتى تجلط على الطريق، وبقيت الأجساد عالقة هناك، كأخشاب مكومة بعد سيل.
كانوا مثبتين بغراء إلى الركام، كل واحد منهم كان. باكتة من الأرواح.
أكان هذا القدر؟
النحس؟
أكان هذا ما غرّاهم إلى الركام هكذا؟
بالطبع لا.
لن نكون أغبياء هنا.
الأمر أكثر ارتباطًا بالقنابل المقذوفة، تلك التي ألقاها بشرٌ يختبؤن في سحب السماء.
نعم، كانت السماء الآن حُمرة مُدمرةً، منزلية الصنع. لقد تم تمزيق البلدة الألمانية الصغيرة مرة أخرى زيادة. رقائق ثلج الرماد كانت تهطل، جمالها الآسر كان ليغويك فتمد طرف لسانك لتمسك بها، تتذوقها. كانت فقط لتحرّق شفتيك. كانت فقط لتطهو فمك.
بالطبع، كنت أراها.
كنت على وشك الذهاب حين وجدتها جاثية على ركبتيها هناك.
سلسلة من جبال الأنقاض كانت مخطوطة، ومصممة، ومشيدةٌ تحيط بها. كانت الفتاة متشبثة بكتاب.
وبغض النظر عن أي شيء آخر، أرادت سارقة الكتب بكل يأس أن ترجع إلى القبو، لتكتب، أو لتقرأ من قصتها مرة أخيرة. أرى الأمر الآن بكل وضوح، في إدراك متأخر. كانت الفتاة لتموت من أجل ذلك –من أجل أمانه، وسكناه- لكنها كانت عاجزة عن الحركة. وأيضًا، حتى القبو لم يعد موجودًا أصلًا بعد الآن. لقد أصبح جزءًا من المنظر المشوه.
من فضلك، مرة أخرى، أرجوك أن تصدقني.
أردت أن أتوقف. أن أجثو على الأرض.
أردت أن أقول:
«أنا آسفٌ يا صغيرة.»
لكنه أمرٌ ممنوع.
لم أجثُ على الأرض. ولم أتكلم.
لكنني، راقبها لفترة. عندما استطاعت الحركة، تبعتها.
ركعت على ركبتيها.
فاضت سارقة الكتب بالعويل.
كتابها داسوا عليه مراتٍ عدة عندما بدأ التنظيف، ورغم أن التوجيهات كانت فقط بخصوص إخلاء فوضى الخرسانة، أغلى مقتنيات الفتاة تم إلقاؤه على متن شاحنة نفايات، وهي اللحظة التي وجدتني فيها مُجبرًا. قفزت داخل الشاحنة وتناولته في يدي، غير مدرك أنني كنت لأحتفظ به وأتصفحه عدة آلاف من المرات على مدار السنين. كنت لأشاهد المواضع حيث تقاطعت دروبنا، وأتعجب مما قد شهدته الفتاة وكيف نجت. هذا هو أحسن ما أستطيع فعله –أن أراقب حكايتها تنطبق على كل شيء آخر قد شاهدته خلال ذلك الوقت.
حيث أستدعي الفتاة في خيالي، أرى قائمة طويلة من الألوان، لكن الألوان الثلاثة التي قد رأيت فيهم الفتاة نفسها أمامي هي أكثر ما يتردد في خيالي. وأحيانًا أتمكن من الطفو بعيدًا فوق هذه اللحظات الثلاثة. أبقى ساكنًا هناك في الأعلى، إلى أن تنز حقيقة ملوثة وتنزف في اتجاه الوضوح.
عند ذلك أراهم يتشكلون.
الألوان
أحمر:      أبيض: ⃝ أسود:   
يسقطون فوق بعضهم البعض. سواد حبر التوقيع، فوق بياض الكوكب الباهر، فوق حمرة الحساء السميكة.
لكنني، غالبًا، ما أتذكرها، وفي واحدٍ من مجموع جيوبي الشاسعة العديدة، قد احتفظ بقصتها لأحكيها مراتٍ عديدة. إنها واحدة من فيلق صغير أحمله معي، كل حكاية استثنائية في ذاتها. كل واحدة منها محاولة –إنها وثبة هائلة تحاول- تحاول أن تثبت لي أنكم، وأن وجودكم البشري، يستحقون العناء.
وهنا ها هي. واحدة منهم.
سارقة الكتب
إذا كانت لديك الرغبة، فتعال معي. سأسمعك حكاية.
سأريك شيئًا ما.


الخميس، 16 يونيو 2016

أو كيف تلمعُ الوحدة كسمكةٍ خرجت لتوها من البحيرة، في صباح عادي جدًا، لتحتجز المعنى...


 (1)

الثامنة والنصف صباحًا. أجلس على كرسي الخشب الثقيل أمام المكتب/الطاولة الخفيف وسط غرفة –أو شبه غرفة الصالون. لم أبدأ في الكتابة بعدُ ولا الترجمة. أفكر في الكتابة التي أهرب منها، أو تهرب مني. أصنع وردة أوريجامي صغيرة من ورق سكري اللون. تذوب الخطوات بين أصابعي، كأن الوردة تنساب لوحدها، لم أختبر هذه السلاسة أثناء تدريب أصابعي على الأوريجامي منذ فترة. أجلس، دخيلًا على الفضاء حولي، أفكر في وحدتي وغربتي داخل أكثر الأماكن ألفةً. أعيد ترتيب جُملي الصغيرة في هذا الصباح. يملؤني خليط من الخفة، وخمول الصيف. كيف احتال على وحدتي وعلى الخمول؟ اكتب السطر الحالي بإصبعٍ واحدٍ تقريباً؛ بالتأكيد ليس بغرض التأني. ولكني، لكني ماذا؟ ما الاستدراك الذي أحاول الإشارة إليه هنا؟ فاتت ساعة تقريبًا منذ بدأت كتابة الفقرة الأخيرة.  كيف أحتال على وحدتي؟ أرتدي قبعة بيضاء مضحكة، وأكتب ما أكتب. وأهش ذبابات الصباح المزعجة. أنصت للموسيقى المرتبكة بأذن واحدة، صوت مروحة السقف الرتيب وتنفس أمي النائمة تحتها يملآن أذني الأخرى. وقلبي، قلبي اليوم متوتر مثل قطة صغيرة خائفة. لأن الليلة ميعاد تسليم مهم. وقلبي متوتر لأن الوحدة تغمره في هذا الصباح. كيف تملؤني كل هذه العاطفة والشهوة في صباح عادي جدًا. كأنني اكبر من جسدي ومن وجودي، كأن ما بداخلي يحاول كسري والخروج. الشبق المحبوس تحت أناملي لا يلمسه غير أزرار لوحة المفاتيح السوداء الميتة، بزواياها الناعمة المتناسقة والتصاقها باللوحة، مثل حقل نباتات بلاستيكية مقصوصة حديثًا. متى يسيل هذا الشبق على جسدٍ حي؟ 

أغرس أصابعي بين أزرار اللوحة معدومة الإحساس وأتوقف قبل أن أكسرها بلحظة. الجوع يصبح غضبًا. مثل حبة ذرة تتفشر؟ هذا الصباح لا يمكنني أن أهرب إلى النوم أو أن أصرخ في وجه المدينة. يمكنني فقط أن أتنفس بعمق لثوانٍ طويلة ثم أعتدل في جلستي على الكرسي، وأشغل نفسي بملاحظة كيف لا أملك في معجم قلبي كلمةً تحمل ما أختبره في صورتها ومعناها، تخفف عني حمله حين أنطقها وتنقل صورة صادقة عنه حين يقرأها أو يسمعها الآخر. أفكر أن اكتب «يسمعها الآخرون»، لكن أعتقد أن مثل هذه البوح لن يسمعه إلا آخرٌ واحد، قد يقرؤها آخرون؛ آخرون لا أعرفهم عن حق ولا يحملون ألف ولام التعريف عند عبورهم في خيالي. حديث اللغةُ وما يتسع له قلبها وصورتها يغويني بالتمادي والانغماس في الكتابة والنقل بحثًا عن قارب يحتوي حِملي (بالكسرة تحت الحاء) ويسبح به بهدوء. أكتب قالبًا، وأجد صورته خالية من الحركة ووعد النمو، فأكتب قاربًا، وأرى حِملي ينساب على وجه بحيرة هادئة أو مياه خليج شفاف –لأن البحيرة مغلقةٌ وأنا أبحث عن وعدٍ بلا حدود. سأقول أن الكلمات قوارب، يبدو اختيارًا منطقيًا أكثر لأنه يحمل بالتبعية وظيفة الكلمة المنطوقة في نقل المعنى والتواصل. بينما القوالب أول ما تستدعي في خيالي قالبًا مدفونًا من طوب الطفلة المحروقة الأحمر الثقيل المستخدم في أساسات البيوت القديمة في مدينتي الصغيرة. ثم تبدو الكلمات القوالب وحدات بناء مصمتة تطل عليّ من علياء جدرانها، هل أنا أتجنى على صورة القوالب بما أكتبه الآن. ألم أغمض عيني وأمر بأناملي، بشبقها المحبوس، وفضولها النِهم وبحثها المجنون عن استجابة جسد حي، فوق وجوه عشرات القوالب النائمة في قلب القاهرة وحنايا المدن الصغيرة التي عبرت في فضائها. أتذكر ملمس حجارة معبد الوحي في سيوة، جدران ممرات مسجد السلطان حسن ضعيفة الإضاءة والحارة القديمة تحت مستوى كنيسة البطل مار جرجس. يبدو المقطع الأخير دخيلًا على البناء الذي أحاول إقامته هنا. أقفز من مرآة المجرد إلى الحسيّ، تسقط القوالب من بين يدي في مياه البحيرة فتهز القوارب الساكنة على وجهها. كأنها محاولة مضحكة للتذاكي على نفسي وعلى القارئ، مجرد احتيالٍ مفضوحٍ لقتلِ الوقت وتشتيت خيط الدخان الدال على أفكاري المستعرة. سأترك الخيال مكومًا ومتداخلًا كما هو وأتوقف عن الكتابة/ أهربُ.

(2)
الثالثة وخمسون دقيقة صباحًا. أحتار في صياغة هذه الجملة، كيف أقول أنني سأتجاهل ما تركته الكتابة من أثر على ملابسي، مثل قطة تمسحت بي وتركت شعرها المنثور عالقًا بقميصي الخريفي المقلم؟ كنت أخرج من بيت صديقتي الذي تهدّم حديثًا، وأتمشى من ميدان طلعت حرب إلى ميدان باب اللوق دون اهتمام، كأن شعر القطة الرمادي امتداد لنسيج ملابسي. سأتجاهل كل ما جد من آثار صغيرة وأنغمس في العودة إلى ما حاولت الهرب منه صباح الأمس. هل أبني قاربي أم أبحث عنه؟ لم أعرف مفردات الحيرة قبل أن أخطو إلى بستان لغتي الثانية: Intimacy هو أول لفظٍ يخطر ببالي أنني ربما أبحث عما يحمله. المرادف العربي -الذي أعرفه في هذه اللحظة- هو «الحميمية» لكن اللفظ الإنجليزي في خيالي يحمل أكثر مما يحمل اللفظ العربي. إنتيماسي؛ يقول القاموس: اسم، ويورد مرادفات عديدة منها حميمية، ومنها ود، ألفة، عِشرة، وملابسة. لكن أيًا منها لا يتسع لما أحمله بعدُ. يقول المعجم الإنجليزي إنتيماسي، إسم. مشتق عن الأصل إنتيمات. إنتيمات، صفة وإسم. من الأصل اللاتيني إينتيماتُيس. إحدى التعريفات تقول «ينتمي لأعمق وأخص الأفكار أو المشاعر؛ ينبت عنها؛ أو يؤثر في جوهر النفس» «معرفة قريبة أو صلة، متصل بقرب عن طريق الصداقة أو المعرفة الشخصية، تتصف بالألفة –مع شخص أو شيء» يقول المعجم أيضًا أن كلًا من الصفة والاسم استخدما منذ القرن السابع للتورية عن ممارسة الجنس. وحين تصبح اسمًا فهي تعني شخصًا نكون معه على قدر عظيم من الصداقة والقرب. في الطب تستخدم اللفظة ذاتها لوصف بطانة الشرايين. هل علي أن أنظر في الأصل اللاتيني لأكتشف أين ضاع المعنى الذي أعتقد وجوده ولا أعرف صورته؟ أدرس الإنجليزية منذ عدة سنوات وما زلت أجد ذلك الحاجز الشفيف يمنعني عن الوصول إلى قلب اللغة الصادق. ألجأ للمعجم العربي، وأبحث في مادة حـ م م. يقول لسان العرب: الحميمُ القريب؛ والحميمُ: الماء الحار. وقال الأزهري: الحميم عند ابن الأعرابي من الأضداد، يكون الماء البارد ويكون الماء الحار؛ والحميمُ المطر الذي يأتي في الصيف حين تسخن الأرض. والحميمُ العَرَقُ. والحميمُ القريب الذي توده ويودك. أبحث في مادة ودد. يقول لسان العرب الودُّ: مصدر المودة. الودُّ الحبُ يكون في جميع مداخل الخير. والودُودُ: المُحِبُ. وموّدة اسم امرأة. ويقول القاموس المحيط الوُدُّ والودادُ: الحبُّ.

(3)
ما الذي أحاول الوصول إليه هنا. كأنني أرتدي عباءة ليست لي. من أنا لأطلب من اللغة أن تفتح صدرها لي وتمنحني ما أحتاجه، أو على الأقل ما أبحث عنه. تعطلت ساعة الحائط اليوم، سأقول أنها توقفت عند السابعة وستة وثلاثين دقيقة صباحًا، فقط لأنني أعرف أنها كان سليمة ساعة الفجر. أحيانًا، مثل الآن في تمام الثالثة وأربعين دقيقة عصرًا، أعتقد أنني أهرب بالكتابة من مواجهة الحياة. كأن الكتابة عرضٌ مسرحي تدربت عليه عشرات المرات حتى تماهيت تمامًا وأصبحتُ أنا النّصَ والحركة والإضاءة والديكور. أحتمي خلف حائطي الوهمي من تفلتُّ الحياة واستعصائها على التدريب والتجويد. لكنني في أوقاتٍ أخرى، مثل الأمس في تمام الثامنة والنصف صباحًا، أجد الكتابة هي الحياة الحقيقية في فضاء وجودي. كأنني حملت النّص المرسوم على ظهري وهبطت به عن خشبة المسرح وأخذت أصرخ في المشاهدين وأستفزهم، فيشتبكون معي ومع النص وحروفه، ينفخون هواءً ساخنًا يملئ فضاء المسرح حتى ينتفخ ويتفجر ويفيض؛ 

(4)
أجلس في عباءة خضراء مثل الفستدق الطازج. أعيد القراءة عدة مرات، في الخلفية أفكّر في الكتابة الأخرى التي ما زلت أهرب منها، وأفكر أن اليوم يبدو خفيفًا على غير العادة بعد نوبات الكتابة. ولسبب في غاية الغموض أرى صوت سام*، تتناول شريط تسجيل من جوارها، تتنهد، تضعه برفق على الطاولة أمام تشارلي وتبتسم وتخبره في زهو أنها وجدت أغنية النفق. أفكر أنني لم أتعلم القيادةَ بعدُ، وذوقي في الموسيقى فوضويٌ مثل نوبات الكتابة. وأفكر في بتر عدة مقاطع مما كتبته. أقاوم ذلك الوسواس بشدة، وأقول لنفسي: سأكون بطلًا صغيرًا، ولو ليومٍ واحد.

                                                     *سام وتشارلي من فيلم The Perks of Being a Wallflower
أغنية النفق:


    







السبت، 4 يونيو 2016

بين ثعلب الأرض ووردة الأمير

                       


          الثالثة فجرًا. كيف تعمل الكتابة يا صديقة؟ أسمع الأمير الصغير يقول لنفسه «لو كان لدي خمسة وثلاثون دقيقة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو النبع.» مفتاح الهمزة على السطر لم يعد يعمل كما يجب، عليّ الآن أن أكبسه بقوة أكثر من مرة حتى تظهر الهمزة على الشاشة، وأستغرب ذلك لأنني لا أستخدمه بالقدر الكافي لتسبيب ذلك العطل. كنت أقول لنفسي إن الفتى الأيرلندي بابتسامته الساهتة، وضحكته المرحة وذقنه الخفيفة والنظارة يذكرني بطلال فيصل. هل أذكر حقًا كيف كان طلال يضحك أو يبتسم منذ ألفين وتلاتاشر؟ جلس الفتى الأيرلندي إلى جواري على شرفة التلة فوق سقف القاهرة وسألني إن كانت الكرة المضيئة في السماء قمرًا، فياله من قمر غريب. أخبرته أنها الشمس. فضحك وأخبرني أنه في أسفاره الطويلة لم ير أبدًا شمسًا تشبه قمرًا غريبًا بهذا المظهر، وتلتهمها سحابة الدخان التي تحكم المدينة بمثل هذا العنف. جلس إلى جواري في الأتوبيس بعد ساعة وقال بتلقائية «ربما لو كنت قطة في شوارع القاهرة لأصبحت سعيدًا. لا أشعر أنني أريد أن أصبح كلبًا هنا.» أخبرته كيف يطلق أهل المدينة شرورهم على كلاب الشوارع والبيوت، وحزنا معنًا داخل الأتوبيس الأحمر الكبير. حين هجر الأمير الصغير وردته الحمراء التي لا مثيل لها، كان في طريقه إلى رحلة تنتهي بالعودة إليها. عيون الفتى الأيرلندي المحدقة في دهشة تذكرني الآن بالأمير الصغير. جلسنا نأكل الملوخية، وتمنى الفتى لو يرجع الحاكم بأمر الله إلى الحياة دقيقة واحدة، ليرى كيف تصبح تعبيرات وجهه حين يرانا وبقية رواد المطعم الفقراء نأكل الملوخية التي حرمها على الشعب. تهنا سويًا في مقابر تحرسها ملائكة حجرية وعلى مدخلها يطعن القديس جورج قلب التنين منذ ألف عام. تهنا في المدينة الفوضوية، وفي الفوضى، وفي ابتلاع المدينة للحياة والموت سواء، وفي شتائم سائق الميكروباس التي تفقد طعمها اللاذع ورائحتها الكريهة حين تعبر من لغتي إلى لغته... فكيف تعمل الكتابة؟ أسمع صوت الأمير الصغير ولا أقاوم دموعي أبدًا، أتمنى فقط لو لم أكن وحيدًا الآن؛ أنا أيضًا أقاوم انسحاب الذاكرة واعتياد الوحدةهل يمكنني أن أنقل ما قاله الثعلب للأمير الصغير بشكل يحافظ على طبقات معناه أو يستجيب للمحبة التي باح بها صوتكِ، صوت الفتاة الباكي ليلة الأمس دون أن يجرحها. الحقيقة التي أعتقدها أنه لا يمكنني أن أمنحك الحب الذي تستحقينه يا صديقة. إنني أقف وحيدًا في المسافة بين الوردة والثعلب. أفكر فيكِ وفي كلماتك، في رنين ضحكتك المتوترة. أفكر كيف قد يغير فعلٌ صغيرٌ من أفعال المودة رؤيتنا للعالم. هل أحبّ الثعلب الأميرَ الصغير حقًا؟ لماذا استخدم أنطوان دو سانت لفظة التدجين يا صديقة؟ يحيرني الأمر. تطل اللغة برأسها مرة أخرى، يعبرُ كلام الثعلب من لغة إلى لغة إلى لغة، فتسقط عنه ثيابه أو يتغير لونها. الحقيقة أيضًا أنني لا أعرف من أنا في هذه الحكاية، من أنتظر وعن من أبحث. هذا الحب أكبر من قُطر بابي ومساحة صدري؛ يوجعني أن أردّه، وسيوجعني إن حاولت استقباله كما تستحقين. لو كان لدي خمسة وثلاثون حياة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو هذا الحب، دون أن أجرحه أو أخذله، لقرأت صوتكِ في ألف ليلة وليلة ولأصبحت أكثر من صديق يلّوح بيده المتعبة من فوق سفينة أو فرع شجرة.