الخميس، 16 يونيو 2016

أو كيف تلمعُ الوحدة كسمكةٍ خرجت لتوها من البحيرة، في صباح عادي جدًا، لتحتجز المعنى...


 (1)

الثامنة والنصف صباحًا. أجلس على كرسي الخشب الثقيل أمام المكتب/الطاولة الخفيف وسط غرفة –أو شبه غرفة الصالون. لم أبدأ في الكتابة بعدُ ولا الترجمة. أفكر في الكتابة التي أهرب منها، أو تهرب مني. أصنع وردة أوريجامي صغيرة من ورق سكري اللون. تذوب الخطوات بين أصابعي، كأن الوردة تنساب لوحدها، لم أختبر هذه السلاسة أثناء تدريب أصابعي على الأوريجامي منذ فترة. أجلس، دخيلًا على الفضاء حولي، أفكر في وحدتي وغربتي داخل أكثر الأماكن ألفةً. أعيد ترتيب جُملي الصغيرة في هذا الصباح. يملؤني خليط من الخفة، وخمول الصيف. كيف احتال على وحدتي وعلى الخمول؟ اكتب السطر الحالي بإصبعٍ واحدٍ تقريباً؛ بالتأكيد ليس بغرض التأني. ولكني، لكني ماذا؟ ما الاستدراك الذي أحاول الإشارة إليه هنا؟ فاتت ساعة تقريبًا منذ بدأت كتابة الفقرة الأخيرة.  كيف أحتال على وحدتي؟ أرتدي قبعة بيضاء مضحكة، وأكتب ما أكتب. وأهش ذبابات الصباح المزعجة. أنصت للموسيقى المرتبكة بأذن واحدة، صوت مروحة السقف الرتيب وتنفس أمي النائمة تحتها يملآن أذني الأخرى. وقلبي، قلبي اليوم متوتر مثل قطة صغيرة خائفة. لأن الليلة ميعاد تسليم مهم. وقلبي متوتر لأن الوحدة تغمره في هذا الصباح. كيف تملؤني كل هذه العاطفة والشهوة في صباح عادي جدًا. كأنني اكبر من جسدي ومن وجودي، كأن ما بداخلي يحاول كسري والخروج. الشبق المحبوس تحت أناملي لا يلمسه غير أزرار لوحة المفاتيح السوداء الميتة، بزواياها الناعمة المتناسقة والتصاقها باللوحة، مثل حقل نباتات بلاستيكية مقصوصة حديثًا. متى يسيل هذا الشبق على جسدٍ حي؟ 

أغرس أصابعي بين أزرار اللوحة معدومة الإحساس وأتوقف قبل أن أكسرها بلحظة. الجوع يصبح غضبًا. مثل حبة ذرة تتفشر؟ هذا الصباح لا يمكنني أن أهرب إلى النوم أو أن أصرخ في وجه المدينة. يمكنني فقط أن أتنفس بعمق لثوانٍ طويلة ثم أعتدل في جلستي على الكرسي، وأشغل نفسي بملاحظة كيف لا أملك في معجم قلبي كلمةً تحمل ما أختبره في صورتها ومعناها، تخفف عني حمله حين أنطقها وتنقل صورة صادقة عنه حين يقرأها أو يسمعها الآخر. أفكر أن اكتب «يسمعها الآخرون»، لكن أعتقد أن مثل هذه البوح لن يسمعه إلا آخرٌ واحد، قد يقرؤها آخرون؛ آخرون لا أعرفهم عن حق ولا يحملون ألف ولام التعريف عند عبورهم في خيالي. حديث اللغةُ وما يتسع له قلبها وصورتها يغويني بالتمادي والانغماس في الكتابة والنقل بحثًا عن قارب يحتوي حِملي (بالكسرة تحت الحاء) ويسبح به بهدوء. أكتب قالبًا، وأجد صورته خالية من الحركة ووعد النمو، فأكتب قاربًا، وأرى حِملي ينساب على وجه بحيرة هادئة أو مياه خليج شفاف –لأن البحيرة مغلقةٌ وأنا أبحث عن وعدٍ بلا حدود. سأقول أن الكلمات قوارب، يبدو اختيارًا منطقيًا أكثر لأنه يحمل بالتبعية وظيفة الكلمة المنطوقة في نقل المعنى والتواصل. بينما القوالب أول ما تستدعي في خيالي قالبًا مدفونًا من طوب الطفلة المحروقة الأحمر الثقيل المستخدم في أساسات البيوت القديمة في مدينتي الصغيرة. ثم تبدو الكلمات القوالب وحدات بناء مصمتة تطل عليّ من علياء جدرانها، هل أنا أتجنى على صورة القوالب بما أكتبه الآن. ألم أغمض عيني وأمر بأناملي، بشبقها المحبوس، وفضولها النِهم وبحثها المجنون عن استجابة جسد حي، فوق وجوه عشرات القوالب النائمة في قلب القاهرة وحنايا المدن الصغيرة التي عبرت في فضائها. أتذكر ملمس حجارة معبد الوحي في سيوة، جدران ممرات مسجد السلطان حسن ضعيفة الإضاءة والحارة القديمة تحت مستوى كنيسة البطل مار جرجس. يبدو المقطع الأخير دخيلًا على البناء الذي أحاول إقامته هنا. أقفز من مرآة المجرد إلى الحسيّ، تسقط القوالب من بين يدي في مياه البحيرة فتهز القوارب الساكنة على وجهها. كأنها محاولة مضحكة للتذاكي على نفسي وعلى القارئ، مجرد احتيالٍ مفضوحٍ لقتلِ الوقت وتشتيت خيط الدخان الدال على أفكاري المستعرة. سأترك الخيال مكومًا ومتداخلًا كما هو وأتوقف عن الكتابة/ أهربُ.

(2)
الثالثة وخمسون دقيقة صباحًا. أحتار في صياغة هذه الجملة، كيف أقول أنني سأتجاهل ما تركته الكتابة من أثر على ملابسي، مثل قطة تمسحت بي وتركت شعرها المنثور عالقًا بقميصي الخريفي المقلم؟ كنت أخرج من بيت صديقتي الذي تهدّم حديثًا، وأتمشى من ميدان طلعت حرب إلى ميدان باب اللوق دون اهتمام، كأن شعر القطة الرمادي امتداد لنسيج ملابسي. سأتجاهل كل ما جد من آثار صغيرة وأنغمس في العودة إلى ما حاولت الهرب منه صباح الأمس. هل أبني قاربي أم أبحث عنه؟ لم أعرف مفردات الحيرة قبل أن أخطو إلى بستان لغتي الثانية: Intimacy هو أول لفظٍ يخطر ببالي أنني ربما أبحث عما يحمله. المرادف العربي -الذي أعرفه في هذه اللحظة- هو «الحميمية» لكن اللفظ الإنجليزي في خيالي يحمل أكثر مما يحمل اللفظ العربي. إنتيماسي؛ يقول القاموس: اسم، ويورد مرادفات عديدة منها حميمية، ومنها ود، ألفة، عِشرة، وملابسة. لكن أيًا منها لا يتسع لما أحمله بعدُ. يقول المعجم الإنجليزي إنتيماسي، إسم. مشتق عن الأصل إنتيمات. إنتيمات، صفة وإسم. من الأصل اللاتيني إينتيماتُيس. إحدى التعريفات تقول «ينتمي لأعمق وأخص الأفكار أو المشاعر؛ ينبت عنها؛ أو يؤثر في جوهر النفس» «معرفة قريبة أو صلة، متصل بقرب عن طريق الصداقة أو المعرفة الشخصية، تتصف بالألفة –مع شخص أو شيء» يقول المعجم أيضًا أن كلًا من الصفة والاسم استخدما منذ القرن السابع للتورية عن ممارسة الجنس. وحين تصبح اسمًا فهي تعني شخصًا نكون معه على قدر عظيم من الصداقة والقرب. في الطب تستخدم اللفظة ذاتها لوصف بطانة الشرايين. هل علي أن أنظر في الأصل اللاتيني لأكتشف أين ضاع المعنى الذي أعتقد وجوده ولا أعرف صورته؟ أدرس الإنجليزية منذ عدة سنوات وما زلت أجد ذلك الحاجز الشفيف يمنعني عن الوصول إلى قلب اللغة الصادق. ألجأ للمعجم العربي، وأبحث في مادة حـ م م. يقول لسان العرب: الحميمُ القريب؛ والحميمُ: الماء الحار. وقال الأزهري: الحميم عند ابن الأعرابي من الأضداد، يكون الماء البارد ويكون الماء الحار؛ والحميمُ المطر الذي يأتي في الصيف حين تسخن الأرض. والحميمُ العَرَقُ. والحميمُ القريب الذي توده ويودك. أبحث في مادة ودد. يقول لسان العرب الودُّ: مصدر المودة. الودُّ الحبُ يكون في جميع مداخل الخير. والودُودُ: المُحِبُ. وموّدة اسم امرأة. ويقول القاموس المحيط الوُدُّ والودادُ: الحبُّ.

(3)
ما الذي أحاول الوصول إليه هنا. كأنني أرتدي عباءة ليست لي. من أنا لأطلب من اللغة أن تفتح صدرها لي وتمنحني ما أحتاجه، أو على الأقل ما أبحث عنه. تعطلت ساعة الحائط اليوم، سأقول أنها توقفت عند السابعة وستة وثلاثين دقيقة صباحًا، فقط لأنني أعرف أنها كان سليمة ساعة الفجر. أحيانًا، مثل الآن في تمام الثالثة وأربعين دقيقة عصرًا، أعتقد أنني أهرب بالكتابة من مواجهة الحياة. كأن الكتابة عرضٌ مسرحي تدربت عليه عشرات المرات حتى تماهيت تمامًا وأصبحتُ أنا النّصَ والحركة والإضاءة والديكور. أحتمي خلف حائطي الوهمي من تفلتُّ الحياة واستعصائها على التدريب والتجويد. لكنني في أوقاتٍ أخرى، مثل الأمس في تمام الثامنة والنصف صباحًا، أجد الكتابة هي الحياة الحقيقية في فضاء وجودي. كأنني حملت النّص المرسوم على ظهري وهبطت به عن خشبة المسرح وأخذت أصرخ في المشاهدين وأستفزهم، فيشتبكون معي ومع النص وحروفه، ينفخون هواءً ساخنًا يملئ فضاء المسرح حتى ينتفخ ويتفجر ويفيض؛ 

(4)
أجلس في عباءة خضراء مثل الفستدق الطازج. أعيد القراءة عدة مرات، في الخلفية أفكّر في الكتابة الأخرى التي ما زلت أهرب منها، وأفكر أن اليوم يبدو خفيفًا على غير العادة بعد نوبات الكتابة. ولسبب في غاية الغموض أرى صوت سام*، تتناول شريط تسجيل من جوارها، تتنهد، تضعه برفق على الطاولة أمام تشارلي وتبتسم وتخبره في زهو أنها وجدت أغنية النفق. أفكر أنني لم أتعلم القيادةَ بعدُ، وذوقي في الموسيقى فوضويٌ مثل نوبات الكتابة. وأفكر في بتر عدة مقاطع مما كتبته. أقاوم ذلك الوسواس بشدة، وأقول لنفسي: سأكون بطلًا صغيرًا، ولو ليومٍ واحد.

                                                     *سام وتشارلي من فيلم The Perks of Being a Wallflower
أغنية النفق:


    







السبت، 4 يونيو 2016

بين ثعلب الأرض ووردة الأمير

                       


          الثالثة فجرًا. كيف تعمل الكتابة يا صديقة؟ أسمع الأمير الصغير يقول لنفسه «لو كان لدي خمسة وثلاثون دقيقة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو النبع.» مفتاح الهمزة على السطر لم يعد يعمل كما يجب، عليّ الآن أن أكبسه بقوة أكثر من مرة حتى تظهر الهمزة على الشاشة، وأستغرب ذلك لأنني لا أستخدمه بالقدر الكافي لتسبيب ذلك العطل. كنت أقول لنفسي إن الفتى الأيرلندي بابتسامته الساهتة، وضحكته المرحة وذقنه الخفيفة والنظارة يذكرني بطلال فيصل. هل أذكر حقًا كيف كان طلال يضحك أو يبتسم منذ ألفين وتلاتاشر؟ جلس الفتى الأيرلندي إلى جواري على شرفة التلة فوق سقف القاهرة وسألني إن كانت الكرة المضيئة في السماء قمرًا، فياله من قمر غريب. أخبرته أنها الشمس. فضحك وأخبرني أنه في أسفاره الطويلة لم ير أبدًا شمسًا تشبه قمرًا غريبًا بهذا المظهر، وتلتهمها سحابة الدخان التي تحكم المدينة بمثل هذا العنف. جلس إلى جواري في الأتوبيس بعد ساعة وقال بتلقائية «ربما لو كنت قطة في شوارع القاهرة لأصبحت سعيدًا. لا أشعر أنني أريد أن أصبح كلبًا هنا.» أخبرته كيف يطلق أهل المدينة شرورهم على كلاب الشوارع والبيوت، وحزنا معنًا داخل الأتوبيس الأحمر الكبير. حين هجر الأمير الصغير وردته الحمراء التي لا مثيل لها، كان في طريقه إلى رحلة تنتهي بالعودة إليها. عيون الفتى الأيرلندي المحدقة في دهشة تذكرني الآن بالأمير الصغير. جلسنا نأكل الملوخية، وتمنى الفتى لو يرجع الحاكم بأمر الله إلى الحياة دقيقة واحدة، ليرى كيف تصبح تعبيرات وجهه حين يرانا وبقية رواد المطعم الفقراء نأكل الملوخية التي حرمها على الشعب. تهنا سويًا في مقابر تحرسها ملائكة حجرية وعلى مدخلها يطعن القديس جورج قلب التنين منذ ألف عام. تهنا في المدينة الفوضوية، وفي الفوضى، وفي ابتلاع المدينة للحياة والموت سواء، وفي شتائم سائق الميكروباس التي تفقد طعمها اللاذع ورائحتها الكريهة حين تعبر من لغتي إلى لغته... فكيف تعمل الكتابة؟ أسمع صوت الأمير الصغير ولا أقاوم دموعي أبدًا، أتمنى فقط لو لم أكن وحيدًا الآن؛ أنا أيضًا أقاوم انسحاب الذاكرة واعتياد الوحدةهل يمكنني أن أنقل ما قاله الثعلب للأمير الصغير بشكل يحافظ على طبقات معناه أو يستجيب للمحبة التي باح بها صوتكِ، صوت الفتاة الباكي ليلة الأمس دون أن يجرحها. الحقيقة التي أعتقدها أنه لا يمكنني أن أمنحك الحب الذي تستحقينه يا صديقة. إنني أقف وحيدًا في المسافة بين الوردة والثعلب. أفكر فيكِ وفي كلماتك، في رنين ضحكتك المتوترة. أفكر كيف قد يغير فعلٌ صغيرٌ من أفعال المودة رؤيتنا للعالم. هل أحبّ الثعلب الأميرَ الصغير حقًا؟ لماذا استخدم أنطوان دو سانت لفظة التدجين يا صديقة؟ يحيرني الأمر. تطل اللغة برأسها مرة أخرى، يعبرُ كلام الثعلب من لغة إلى لغة إلى لغة، فتسقط عنه ثيابه أو يتغير لونها. الحقيقة أيضًا أنني لا أعرف من أنا في هذه الحكاية، من أنتظر وعن من أبحث. هذا الحب أكبر من قُطر بابي ومساحة صدري؛ يوجعني أن أردّه، وسيوجعني إن حاولت استقباله كما تستحقين. لو كان لدي خمسة وثلاثون حياة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو هذا الحب، دون أن أجرحه أو أخذله، لقرأت صوتكِ في ألف ليلة وليلة ولأصبحت أكثر من صديق يلّوح بيده المتعبة من فوق سفينة أو فرع شجرة.