الأربعاء، 25 مارس 2015

التمرحنة لا يزهر إلا بين ضلوعه







(1)
متى تطيبُ روحي يا ربي.

ها انا أرقدُ/
أصابعي المرتخية معقودة حول أوردتي. ولا أكتب.
أصابعي معقودة ولا أكتب. أصابعي معقودة حول أوردتي فلا تجري الحياة في جسدي كما يجب. وأصابعي مرتخية كلما استندت عليها اصطدمت بالأرض. والأرض تشدني طوال الوقت. وجواز سفري أبيض ينتظر الاحتمالات كلها، لكنه بعيد عن أصابعي. نسيت أين وضعته. في الحقيقة نسيت أشياء كثيرة: في أي جيب يرقد، وفي أي بلدة سقط مني قلبي الأخضر، وكم أمتدت جذوره البيضاء الطرية خلفي. نسيت تاريخ ميلاد أمي، في الحقيقة لم أحفظه أبداً. ولم أعرف صوت جدي الاول، ولم يتكلم الثاني كثيراً حتى آلف صوته. رحل جدي ثم ندمت على كل المرات التي قطعت فيها الطريق مسرعاً حيث يجلس وتظاهرت أنني لم لم أسمع ندائه. كنت غضاً لم أعرف الموت عن قرب ولم أتوقعه. ثم هبط الموت على بعد اصبعين من قلبي.

(2)
هبط الموت في حجر أبي حيث يرتاح جدي. غلف الموت صوت جدي في أشرطة بيضاء. قبّلت رأسه ثم أحكمت عقد الأشرطة حول كلماته القليلة وندائه من فوق مقعده على ناصية القهوة ذات الجدران الخضراء. أحمل ماء الغسل الأخير في دلو أبيض، أقطع صالة البيت المكشوفة من أي غطاء في مدارات بيضاوية، ولا أخطو على نفس الموضع مرتين. تركت جدي هادئاً وليناً ووديعاً داخل شرنقة موته البيضاء ورحت أركض عبر طرقات مدينتي الصغيرة. نسيت ما الذي أركض خلف، لكنني ركضت أكثر. نعم، كنت أبحث عن مفتاح القبر. في مدينتي الصغيرة يخبؤون الموتى خلف جدران عديدة. ركضت ولم أجد المفتاح. كانت الشمس تركض مسرعة منذ الصباح، وكان جدي يطفو داخل شرنقة موته البيضاء فوق مئات الأكتاف والأقدام مسرعاً نحو مسجد المدينة الجامع. تسرع الأقدام نحو بيت الرب، وتسرع قدماي نحو باب القبر المغلق خلف سور حصين. أكسر على الموت بابه المغلق. أضع أصابعي العشرة في عينه اليسرى وأستخرج حدقة عينه الرخامية الباردة. تهاويت على الأرض وتركتها ترتاح في حجري. سالت حشرات سوداء من عينه المفقوءة، وفاض جو حارٌ وقابض في فضاء المكان. جلست ألهث من الحزن الراقد فوق أكتافي منذ ليلة الأمس. زحف عم شحاتة داخل عين القبر وأزاح آخر الموتى المرتاحين على سرير الرمل، سمعت عظامه تخطو نحو زاوية القبر المظلمة، ثم تتكوم ببطئ فوق جيرانه. قبور مدينتي الصغيرة لا تعجبني. أعرف أنني لن أرتاح إن جلست أنتظر نهاية العالم محبوساً داخل عين مصمتة من القرميد الأحمر. فتحت النوافذ ليغسل الهواء جو المكان. يفيض النور العسلي داخل الغرفة الحليبية. ليلة الأمس أجلست جدي إلى جواري على الطاولة الزرقاء، طلب كوب حليب بالعسل ولم يكمله. قال «غطيني» فوضعته في سريره، أرخيت شاله المعقود تحت ذقنه، فردت البطانية الحمراء الخشنة فوق جسده الممدد وقبلت رأسه.

(3)
وضع جدي رأسه في حجر أبي، كرر الشهادتين ثم صمت قليلاً. نظر إلى السماء، كاد يبتسم ثم.... «يا فرج الله يا قريب يا رب» قالها ثم نزفت أنفه قطرة دمٍ واحدة ومالت رأسه على حجر أبي. لا أذكر ماذا كتبت عن جدي بعدها في دفتري الأخضر القديم، أذكر أنني عدت إلى بيتنا بعد غياب شهر أو يزيد، نسيت حقيبتي مفتوحة بجواري وجلست آكل. عاد أبي إلى البيت في منتصف النهار على غير عادته وجلس بجواري، تناول دفتري وقرأ ما قرأ ثم بكى وضمني إلى صدره في حضن طويل. لم أتجرأ على الكتابة بعدها لشهور طويلة.

حين رجعت إلي الكتابة لم أجد جدي حاضراً. سنوات ثلاثة لا تصل إليه كتابتي. ثم يجد هو طريقه إلى دفتري حين جلست ليلة الأمس أكتب عجزي عن الكتابة. ولست أدري لم كتبت عن حضور الموت بدل الحياة. جدي الذي عرفته لا يشبه حكايات الآخرين عنه. طفل ثمانيني هادئ ومنكمش. يجلس على ناصية القهوة المواجهة لسور المقابر. يسير بهدوء عبر شوارع المدينة التي لم تتغير في عينيه منذ ثلاثين عامًا. يصف جدي معالم مدينة لا وجود لها. يسأل عن الساعة عند انتهاء النهار مراتٍ عديدة، ينسى الإجابة ويعيدُ السؤال وأتعلم كيف أجيبه دون أن أثير حيرته. يسألني كل ليلة عن أم كلثوم، هل تغني الليلة؟ يتأكد «هي الست لسة عايشة؟» وأعيد الإجابة كل ليلة دون ملل. يرفض تقبل موتها فأحكي له التواريخ والتفاصيل الصغيرة، يقول «تؤ تؤ تؤ» ثم يتقبل الحقيقة ويدعو لها بالرحمة، ثم يعيد السؤال في الليلة التالية. يبتسم جدي وهو يحكي «أحمد ابن عادل ربنا يبارك فيه فسحني امبارح في اسكندرية» ولم أكن عرفت الطريق إلى الاسكندرية حينها، لكنني لا أنكر عليه الرحلة ولا الرضا. «قول لهم يا أحمد» فأقول «حصل» فيبتسم الآخرون في تآمر. يرفض الطفل الثمانيني تناول ادويته لكنني أقنعه بالحيلة، يرفض الجلوس في غرفته لكنني أقنعه بحيلة أخرى، أتفق مع صبي القهوة كي لا يغير له حجر الشيشة أكثر من مرة واحدة، يجلس جدي ويطلب لي كوب ينسون وحين يرفض فتى القهوة تغيير حجر الشيشة يلتفت إليّ جدي «تصدق إنت ابن كلب» ويضحك في استسلام عابث ويقول «قوم روحني» نتمشى سوياً، يقرأ جدي الفاتحة ويدعو لأسلافه الراقدين في مقبرة العائلة على ناصية الطريق إلى بيتنا.

(4)
أجلس وحدي في غرفة المقبرة، يطفو جدي فوق مئات الأكتاف والأقدام على الطريق المنحدر نحو المقابر، تمتلئ الغرفة عليّ فجأة، أحمل جدي في شرنقة موته البيضاء بين يدي، يبدو أخفّ من كل الأشياء، أضمه إلى صدري لحظة أطول مما يجب، أضمه إلى صدري بقوةٍ فينغزني أحدهم كي أفلته... يريحه عم شحاته على سرير الرمل ويرخي الأشرطة التي أحكمتُ عقدها منذ ساعات. يعيد عم شحاته حدقة عين القبر إلى مكانها ويعالجها ببعض الاسمنت الأبيض والرمل. عشرات الأيدي تربّت على كتفي ثم ترحل... يفيض الهواء بارداً، يهز وحدتي الجديدة برفق وأتلو ما تيسر لي من سورة ياسين كما يطيب لجدتي. كنا نجلس حول جدي منذ شهورٍ طويلة، ظنّ جدي أنه سيموت وصدقناه، غامت عيناه وبردت أطرافه وجلسنا جميعاً نبكي في صمت، ثم دخلت جدتي إلى حجرته تزحف على يديها وقدميها، جلست بجوار رأسه على الكنبة الحمراء العتيقة وقرأت فواتيح سورة ياسين فغرقنا جميعاً في ضحك هستيري وسط بكائنا، ثم استيقظ جدي وعاد من موته المنتظر. راقبته طوال ليلة الأمس منتظراً أن يستيقظ مثل المرات الماضية لكنه لم يفعل. قرأت سورة ياسين مرات عديدة لكنه لم يستيقظ ليلة الأمس ولا هذا الصباح.

(5)
أهيم اليوم في شوارع الاسكندرية، تراودني ذكرى فسحتي المفترضة مع جدي، حكى جدي فيما حكى أننا صلينا في أبو العباس، أمر بحوار المسجد في الصباح وأعود إليه في آخر النهار، أودّع ضحى ثم أعبر الطريق، يجلس عجوزٌ يشبه جدي كثيراً قرب درجات السلم.  أصعد عدة درجات ثم أعود إليه. يبتسم ابتسامة مثل ابتسامته ويغمض عينيه مثله، يسقيني كوب ماء محلى بماء الورد، كانت هذه عادة جدتي في طفولتي الأولى. أردت بشدة أن أقبل رأسه ولم أفعل. ناولته الكوب الفارغ وهمست لطيف الذكرى «ربنا يخليك يا جدو.» صليت ما شاء الله لي أن أصلي، ثم قضيت الليلة هائماً بامتداد الكورنيش.

(6)
زارني جدي في الحلم فجأة. هادئاً ومريضاَ. أساعده على صعود السلم أو إيجاد الحمام. أساعده كما اعتدت ثم يختفي. يزورني مرة أخرى، يسير بجواري على دراجته الحمراء العتيقة، نقطع الطريق من السوق إلى البيت في صمت. يفاجئني جدي في رؤيا غير متوقعة بعد شهور طويلة: يضغط برفق على كتفي ويقول «أنا سعيد إنك حلو وكويس»  يلقي ببعض التعليمات للعامل في الزريبة ثم يبتسم ابتسامة جميلة مضيئة، تفوح منه رائحة طيبة كأنما خرج لتوه من حمام دافئ وذقنه حليقة.«يطبطب» جدو مصطفى على ظهري ويناديني أبي، نلتفت سوياً فيقول «اترك جدك وتعال وحدك» أخطو تجاه أبي ثم أستيقظ.

(7)
جدي الحبيب،

أدرك الآن أنك وجدت الفرج القريب الذي اطلعت عليه حين فاضت روحك، ولا أملّ من إرسال الهدايا الصغيرة إليك كلما تيسر لي. يفاجئني الآن أن أستأنس وجود المقابر في منتصف الطريق بين بيتنا وأي مكان في فارسكور، لم أعد أدور في الطرقات الخلفية كي أتجنب المرور بها. يسعدني ذلك بطريقة غير قابلة للفهم. هناك صفاء ما غامض يغمرني كلما عبرت بخاطري، وكلما عبرت أنا بجوارك. يطمئنني حضورك المستمر. يطمئنني طيب ذكراك. ويطمئنني رضاك عنّا.

لكنني ما زلت تائهاً يا جدي، حين فاضت روح نينة أمينة كنت تائهاً وحبيساً في طرقات المدينة الكبيرة البعيدة، مدينتي الصغيرة مثقلة بحزن كبير في عيني منذ وصلت في تلك الليلة ولم أجدها. محبتكما ممتدة رغم الغياب، لكنني أكثر هشاشة مما يعتقد الجميع. كانت نينة تبكي حين أحملها وتقول «ربيتك وشيلتك وانت عيل عشان تشيلني لما أعجز» وكم آلمني بكاؤها... غيابك جدي مكتمل لكن غيابها منقوص. غيابها ضياع. ربما لهذا السبب أكتب عمن ضاعت مني أكثر ممن غاب. أراني ميتاً في رؤياي وأبحث عن جدتي وسط جيراني الموتى تحت الأرض ولا أجدها...  ما زلت تائهاً يا جدي لكنني أكتب أكثر مما مضى، أشد خيوط الحكايات وأعقدها سوياً، أشيد من الكتابة جسراً خفيفاً وشاطئاً ناعماً وبحراً صغيراً أحمله معي حيثما ذهبت. الليلة قلبي خالٍ ولهذا أكتب. أدفع عني الاكتئاب بأستار الذكرى الطيبة وبريق الامل المعقود على مغامرة قادمة.  سأشد ثوب حكايتي وأعقده في طرف الحكايات المنسية في طرف الأرض، سأهيم كما يشاء لي قلبي والقدر، سأغرس فرع التمرحنة الأخير في جيب معطفك الصوفي الذي تحبه، وسيزهر بين ضلوعي..

                                                     طبتَ جدي، وطابت روحك.