الأحد، 12 يناير 2014

في المشي وحيداً - أول تدوينات الشتاء

                                      
تقع تمشية الفجرية موقعاً مميزاً من نفسي، ربما لأنها الفرصة الأكثر صفاءً للاستمتاع بتقاطع حياتي مع مرور الزمان والمكان. أحب المشي بشكل عام، أستمتع بالمشي منفرداً، وأكرهه أيضاً، فالوحدة تمنحني مساحة أكبر للتأمل وللانتباه لتفاصيل الناس والأشياء، لكنها تترك أبواب صدري مفتوحة للوَحشة، الوَحشةِ التي لا تستأذن أبداً قبل أن تصيب القلب بلفحة بردٍ أو خدشة نازفة صغيرة على ركبته...  يدعني المشي لأغرق في أنفاق غير مرئية من العزلة والصفاء: يعزل عني تشويش الضوضاء، ويجلو بصيرتي لألمس التفاصيل الخفية للعالم من حولي. يسعادني المشي على التخفف من همومي، أو التسرية عن نفسي. أتمشى في الصباحات الباكرة قبل استيقاظ الناس والأشياء، وأتمشى في منتصف الأيام وقرب نهايات النهار، وأتمشى في بعض الليالي المرهقة طلباً للشفاء...ـ

تعارضني تيارات ثقيلة من تعب الناس وحنقهم على الحياة أثناء تمشية منتصف اليوم، لا يمكنني أن أتجاهل رغبتي المُلحة في إحصاء الوجوه المبتسمة في طريقي، وهي رغبة محبطة في محصلتها لأنها تُشعرني بالمزيد من الغربة: أسير وحيداً في منتصف النهار، أبتسم وحيداً -فالطريق لا يخلو أبداً من أسباب البهجة- ثم أغرق في حيرة البحث عن تفسير مقنع لتجهم الناس بشكل منتظم، كأنهم في اتفاق ضمني على العبوس في وجوه بعضهم البعض، ولا ينتشلني من تلك الحيرة غير تلاقي عيني بذلك الغريب المتطلع إلي من خلف نافذة أوتوبيس النقل العام الأحمر الكبير، أو الأخضر الصغير، تتلاقي أعيننا، فأبتسم له، ويرد على ابتسامتي بمثلها وإشارة من يده.ـ

لا أتمشى منفرداً في المساء إلا للتخلص من حمل ثقيل على صدري، قد يكون غضباً، إحباطاً أكبر بقليل من إحباطاتي المعتادة، بعض الوحشة الكاسرة والتي أحتاج فضاءً أوسع من غرفتي حتى أتمكن من التعامل معها، وربما فكرة أو فتنة أو هوساً طارئاً يضغط بإصرار على مراكز اتخاذ القرار في دماغي... أتمشى ليلاً حين أعاني من وحدتي ولا أجد سوى حضن الليل ليبدد آثار الوحدة وتوابعها. وتكمن لي المفارقة خلف أستار الليل، فهو لا يبدد كل همي في بعض الأحيان. حين أنتقل من فضاء غرفتي المغلق إلى الفضاء الليلي المفتوح يتغير الضغط من حولي، فتتضخم همومي وتكبر مثل البالونة حين تخرج من تحت الماء إلى الجو الخفيف... أحياناً ينجح فرق الضغط في فرقعتها من الداخل، وأحياناً أخرى تكبُر وتكبُر حتى تأسرني في داخلها. أمارس مجموعة من طقوس الخلاص أثناء تمشية المساء، وطقوسي تبدأ بإنشاد الشعر أو الأغاني، ولا تنتهي بشراء أكل خفيف من الشارع أو ركوب مواصلة عشوائية. أغاني أم كلثوم هي الأكثر حضوراً أثناء وحدتي، وهي الأكثر وجعاً، لكن صياغتها مغوية وألحانها آسرة، أتحصن من وجعها بمقاطع متناثرة من جدارية درويش. جدارية درويش هي الأقدر على تحرير الروح من أي وجع، تغرس في الوحدة سمواً ميتافيزيقياً مرغوباً، كسمو أبطال الحكايات الأسطورية ممن يمتطون السحاب ويسخرون العفاريت. أسير في وحدتي، في فضاء الليل الواسع، أنشد مقطعاً من  الجدارية، وأركل همومي وادحرجها كحجارة صغيرة أو كالرمل المزعج المتسرب في قلب حذائي، وألمس المعدن البارد لسور الكوبري. تسري برودته في أطراف أصابعي ثم في يدي بأكملها لتشعرني بأنني جزء من بنائه المحكم الصامد في وجه قسوة المدينة وأهلها. وفوق الكوبري تبلغ تمشية المساء ذروتها، وأبلغ من الخلاص ما يكفيني لأنام مرتاح البال.ـ

تبدأ تمشية الفجرية بخروجي للصلاة في أغلب الأحيان. أخرج للصلاة لأسبابٍ عديدة: ادراكي المفاجئ لغفلتي الدائمة عن التقصير في عبادتي، شكراً وامتنان لفضل الله، لجوء لله وقت شدة، أو مثابرة في المحافظة على درجة من القرب وصلت إليها ولا أريد أن أخسرها... تخف روحي وتكاد تطفو أثناء السعي إلى المسجد، وأرضى عن نفسي أكثر مع كل خطوة. في الطريق إلى المسجد تبدو كل الأشياء على درجة من الاختلاف، يبدو السحاب أقرب، والقمر أكبر والنجوم أوضح، سطح النيل أهدأ والسيارات النادرة في تلك الساعة أقل ضوضاء. يغمرني الصفاء في اللحظة التي أختم فيها صلاتي وأخطو خطوتي الأولى. ألاحظ خيوط الضوء الأولى تتسرب من جهة الشرق، وألاحظ الفرق الطفيف في رائحة الجو وبرودة نسائم الفجر قبل الصلاة وبعدها –وأحياناً أتساءل إن كنت أتوهم ذلك أم ألاحظه فعلاً؟- وأخطو خالياً من كل هم. في الصيف تستيقظ عصافير الأشجار مبكراً، في الشتاء لا تبدأ أغانيها إلا قبيل الشروق بقليل، يضايقني هذا قليلاً ويحرمني من بعض البهجة التي أشتهيها.  أعرف أن رجوعي للبيت أو لغرفتي في السكن سينهي تلك الحالة المميزة، فأطيل المشي، وأبطئ قدر استطاعتي، وأسرع قدر ما علي من التزامات أتجنب التفكير فيها. أخطو خطواتي الأولى وأحمد الله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا فضله علي وحلمه بي. أحمد الله في سري على نعمة القدرة على الحمد والشكر والتقرب إليه بالدعاء. تصل روحي إلى منتهى خفّتِها في تلك اللحظات: تلعب ألحان مبهجة في خيالي، وقد أبدأ في الدندنة أو الغناء إذا ما استبد بي الصفاء. في المرة الأخيرة أمسكت بنفسي أغني "أنا وحبيبي في جنينة" بينما أسير وحيداً في شارع أبو الفدا، ويتمثل لي صباح فخري بكل سلطنته وصخب موسيقاه.. أتطلع إلى الأشجار المحيطة بي، أقرب ما تكون إلى جنينة، لكنها بلا ورد.. أكبح جماح السلبية الموعودة في تلك الأفكار –التي تمر بسرعة أكبر مما تبدو عليه على الورق- وأبدأ في دندنة "يا غصن نقا مكللاً بالذهب... أفديك من الردى بأمي وأبي..." وأضحك حين أصل للبيت الذي يقول فيه "الحب أذى والعشق سم قاتل"... ويرد عليه درويش في مخيلتي "من سوء حظي أني نجوت مراراً من الموت حباً، ومن حسن حظي أني ما زلت حياً لأدخل في التجربة."   وأضحك على أفكاري مرة أخرى، فالأبيات على لسان "المحب المجرب" وتجربتي أنا لم تكد تبدأ حتى انتهت سريعاً. وينتهي طريقي سريعاً كما انتهت تجربتي الثانية أسرع من الأولى. أقول لنفسي: الأشجار خضراء، والقمر منير، والنيل يجري، ونسيم الفجر يشفي الصدور... لماذا ترفض الحياة بداخلي أن تبقى بمثل هذه البساطة؟"ـ

28 ديسمبر 2013