الثالثة فجرًا. كيف تعمل الكتابة يا صديقة؟ أسمع الأمير الصغير يقول لنفسه «لو كان لدي خمسة وثلاثون دقيقة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو النبع.» مفتاح الهمزة على السطر لم يعد يعمل كما يجب، عليّ الآن أن أكبسه بقوة أكثر من مرة حتى تظهر الهمزة على الشاشة، وأستغرب ذلك لأنني لا أستخدمه بالقدر الكافي لتسبيب ذلك العطل. كنت أقول لنفسي إن الفتى الأيرلندي بابتسامته الساهتة، وضحكته المرحة وذقنه الخفيفة والنظارة يذكرني بطلال فيصل. هل أذكر حقًا كيف كان طلال يضحك أو يبتسم منذ ألفين وتلاتاشر؟ جلس الفتى الأيرلندي إلى جواري على شرفة التلة فوق سقف القاهرة وسألني إن كانت الكرة المضيئة في السماء قمرًا، فياله من قمر غريب. أخبرته أنها الشمس. فضحك وأخبرني أنه في أسفاره الطويلة لم ير أبدًا شمسًا تشبه قمرًا غريبًا بهذا المظهر، وتلتهمها سحابة الدخان التي تحكم المدينة بمثل هذا العنف. جلس إلى جواري في الأتوبيس بعد ساعة وقال بتلقائية «ربما لو كنت قطة في شوارع القاهرة لأصبحت سعيدًا. لا أشعر أنني أريد أن أصبح كلبًا هنا.» أخبرته كيف يطلق أهل المدينة شرورهم على كلاب الشوارع والبيوت، وحزنا معنًا داخل الأتوبيس الأحمر الكبير. حين هجر الأمير الصغير وردته الحمراء التي لا مثيل لها، كان في طريقه إلى رحلة تنتهي بالعودة إليها. عيون الفتى الأيرلندي المحدقة في دهشة تذكرني الآن بالأمير الصغير. جلسنا نأكل الملوخية، وتمنى الفتى لو يرجع الحاكم بأمر الله إلى الحياة دقيقة واحدة، ليرى كيف تصبح تعبيرات وجهه حين يرانا وبقية رواد المطعم الفقراء نأكل الملوخية التي حرمها على الشعب. تهنا سويًا في مقابر تحرسها ملائكة حجرية وعلى مدخلها يطعن القديس جورج قلب التنين منذ ألف عام. تهنا في المدينة الفوضوية، وفي الفوضى، وفي ابتلاع المدينة للحياة والموت سواء، وفي شتائم سائق الميكروباس التي تفقد طعمها اللاذع ورائحتها الكريهة حين تعبر من لغتي إلى لغته... فكيف تعمل الكتابة؟ أسمع صوت الأمير الصغير ولا أقاوم دموعي أبدًا، أتمنى فقط لو لم أكن وحيدًا الآن؛ أنا أيضًا أقاوم انسحاب الذاكرة واعتياد الوحدة. هل يمكنني أن أنقل ما قاله الثعلب للأمير الصغير بشكل يحافظ على طبقات معناه أو يستجيب للمحبة التي باح بها صوتكِ، صوت الفتاة الباكي ليلة الأمس دون أن يجرحها. الحقيقة التي أعتقدها أنه لا يمكنني أن أمنحك الحب الذي تستحقينه يا صديقة. إنني أقف وحيدًا في المسافة بين الوردة والثعلب. أفكر فيكِ وفي كلماتك، في رنين ضحكتك المتوترة. أفكر كيف قد يغير فعلٌ صغيرٌ من أفعال المودة رؤيتنا للعالم. هل أحبّ الثعلب الأميرَ الصغير حقًا؟ لماذا استخدم أنطوان دو سانت لفظة التدجين يا صديقة؟ يحيرني الأمر. تطل اللغة برأسها مرة أخرى، يعبرُ كلام الثعلب من لغة إلى لغة إلى لغة، فتسقط عنه ثيابه أو يتغير لونها. الحقيقة أيضًا أنني لا أعرف من أنا في هذه الحكاية، من أنتظر وعن من أبحث. هذا الحب أكبر من قُطر بابي ومساحة صدري؛ يوجعني أن أردّه، وسيوجعني إن حاولت استقباله كما تستحقين. لو كان لدي خمسة وثلاثون حياة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو هذا الحب، دون أن أجرحه أو أخذله، لقرأت صوتكِ في ألف ليلة وليلة ولأصبحت أكثر من صديق يلّوح بيده المتعبة من فوق سفينة أو فرع شجرة.
لأن الجنينة جنة صغيرة، ولأن بابها بوابة مفتوحة على عوالم مدهشة... ولان اهلها سعداء وحيواناتها تتكلم وأشجارها سخية... ولأن الروح تلجأ إليها كلما أصابتها بعض العتمة...
السبت، 4 يونيو 2016
بين ثعلب الأرض ووردة الأمير
الثالثة فجرًا. كيف تعمل الكتابة يا صديقة؟ أسمع الأمير الصغير يقول لنفسه «لو كان لدي خمسة وثلاثون دقيقة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو النبع.» مفتاح الهمزة على السطر لم يعد يعمل كما يجب، عليّ الآن أن أكبسه بقوة أكثر من مرة حتى تظهر الهمزة على الشاشة، وأستغرب ذلك لأنني لا أستخدمه بالقدر الكافي لتسبيب ذلك العطل. كنت أقول لنفسي إن الفتى الأيرلندي بابتسامته الساهتة، وضحكته المرحة وذقنه الخفيفة والنظارة يذكرني بطلال فيصل. هل أذكر حقًا كيف كان طلال يضحك أو يبتسم منذ ألفين وتلاتاشر؟ جلس الفتى الأيرلندي إلى جواري على شرفة التلة فوق سقف القاهرة وسألني إن كانت الكرة المضيئة في السماء قمرًا، فياله من قمر غريب. أخبرته أنها الشمس. فضحك وأخبرني أنه في أسفاره الطويلة لم ير أبدًا شمسًا تشبه قمرًا غريبًا بهذا المظهر، وتلتهمها سحابة الدخان التي تحكم المدينة بمثل هذا العنف. جلس إلى جواري في الأتوبيس بعد ساعة وقال بتلقائية «ربما لو كنت قطة في شوارع القاهرة لأصبحت سعيدًا. لا أشعر أنني أريد أن أصبح كلبًا هنا.» أخبرته كيف يطلق أهل المدينة شرورهم على كلاب الشوارع والبيوت، وحزنا معنًا داخل الأتوبيس الأحمر الكبير. حين هجر الأمير الصغير وردته الحمراء التي لا مثيل لها، كان في طريقه إلى رحلة تنتهي بالعودة إليها. عيون الفتى الأيرلندي المحدقة في دهشة تذكرني الآن بالأمير الصغير. جلسنا نأكل الملوخية، وتمنى الفتى لو يرجع الحاكم بأمر الله إلى الحياة دقيقة واحدة، ليرى كيف تصبح تعبيرات وجهه حين يرانا وبقية رواد المطعم الفقراء نأكل الملوخية التي حرمها على الشعب. تهنا سويًا في مقابر تحرسها ملائكة حجرية وعلى مدخلها يطعن القديس جورج قلب التنين منذ ألف عام. تهنا في المدينة الفوضوية، وفي الفوضى، وفي ابتلاع المدينة للحياة والموت سواء، وفي شتائم سائق الميكروباس التي تفقد طعمها اللاذع ورائحتها الكريهة حين تعبر من لغتي إلى لغته... فكيف تعمل الكتابة؟ أسمع صوت الأمير الصغير ولا أقاوم دموعي أبدًا، أتمنى فقط لو لم أكن وحيدًا الآن؛ أنا أيضًا أقاوم انسحاب الذاكرة واعتياد الوحدة. هل يمكنني أن أنقل ما قاله الثعلب للأمير الصغير بشكل يحافظ على طبقات معناه أو يستجيب للمحبة التي باح بها صوتكِ، صوت الفتاة الباكي ليلة الأمس دون أن يجرحها. الحقيقة التي أعتقدها أنه لا يمكنني أن أمنحك الحب الذي تستحقينه يا صديقة. إنني أقف وحيدًا في المسافة بين الوردة والثعلب. أفكر فيكِ وفي كلماتك، في رنين ضحكتك المتوترة. أفكر كيف قد يغير فعلٌ صغيرٌ من أفعال المودة رؤيتنا للعالم. هل أحبّ الثعلب الأميرَ الصغير حقًا؟ لماذا استخدم أنطوان دو سانت لفظة التدجين يا صديقة؟ يحيرني الأمر. تطل اللغة برأسها مرة أخرى، يعبرُ كلام الثعلب من لغة إلى لغة إلى لغة، فتسقط عنه ثيابه أو يتغير لونها. الحقيقة أيضًا أنني لا أعرف من أنا في هذه الحكاية، من أنتظر وعن من أبحث. هذا الحب أكبر من قُطر بابي ومساحة صدري؛ يوجعني أن أردّه، وسيوجعني إن حاولت استقباله كما تستحقين. لو كان لدي خمسة وثلاثون حياة لأنفقها، لمشيت ببطء نحو هذا الحب، دون أن أجرحه أو أخذله، لقرأت صوتكِ في ألف ليلة وليلة ولأصبحت أكثر من صديق يلّوح بيده المتعبة من فوق سفينة أو فرع شجرة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق