الثلاثاء، 20 أكتوبر 2015

متى أخترق قشرة الصمت وأمضي؟




لكسر روتين الصمت الذي أفرضه على نفسي أكتب. أكتب أنني محاصرٌ في جسدي ووحدتي، وأن تاريخ اليوم يزعجني ويعلمني أنني سأكمل عامي الرابع والعشرين بعد أسابيع أربعة، وأنني لست مستعدًا لكل هذا الركض والاستنفاذ. لكسر روتين الصمت أتكور في سريري بعد التاسعة صباحًا، تائهًا بين النوم واليقظة، أتكور في سريري وأكتب بين سطرين في خيالي كيف أنني لا أكتب منذ أيام طويلة، لا أتكلم ولا أقرأ، وأنني أبغض هذه الحالة وأبغض غضبي على نفسي. أتكور في سريري وأقرر أن أغيب في عالم الأحلام ساعة، أعلم أنني لم أتناول دواء الاكتئاب منذ أيام ولذا أنا أقرب للأحلام المتماسكة؛ في الحلم الأول تسقط صديقتي في بيتنا، ترتدي تنورة مزينة بالزهور وتدور مع أصدقائنا وتحكي عن رجل مجهولٍ أحبته. في الحلم الثاني تقرأ السنافر مقاطع متفرقة من كتاب مجهول لتشارلز ديكنز، ثم يسبحون واحدًا بعد الآخر على حوائط برتقالية يرسمون عليها أمواجًا زرقاء حليبية وقططًا مسحورة وزهورًا ضخمة، ويغني كل منهم ما حفظه من كتابة ديكنز. أسقط في غرفة حمام مرصوفة بسيراميك لبنيٍّ وأنهمك في الكتابة على جسدي العاري، أكتب بحبر أسود كثيف أبياتًا من مترجمةً من شعر جون دن، وأكتب كل كلمة تمر بخاطري. وأبكي، ويسيل الحبر مثل النزف على أصابعي وفخذاي. أستيقظ، أجلس القرفصاء ساعة، مجرة هائلة من الأفكار السوداء والبيضاء تتلاطم في داخلي. أتوضأ ثلاث مرات ولا أصلي. يتوقف الزمن في غرفتي وتنقطع الأصوات عني. ثم أصلي العصر أخيرًا وأدخل في حذائي الرياضي وأقطع الطريق واقفًا من البيت إلى وسط البلد. يبدو المترو خاليًا وصامتًا على غير عادته، أصعد درجات السلم، أجلس على كرسي المكتب تحت الضوء الأبيض الساطع، تتلاطم أذرع المجرة في داخلي مرة أخرى وأقرر أن أترك عملي بعد أسابيع من التردد والحيرة... في حقيقة الأمر لا أريد الغرق في غياهب الكومفورت زون مرة أخرى، لكنني، في هذه اللحظة لا أملك القدرة على المعافرة خارجها. سأترك العمل الذي يتحداني وأبحث عن فرصة على حدود الكومفورت زون اللعينة، أتعلق بقارب صغير وأدفع نفسي خطوة متناهية الصغر خارج حدودها. أجلس تحت الأضواء البيضاء الساطعة، أقرر أن أتخلى عمّا يستهلك ما تبقى من طاقتي، ويحزنني التخلي رغم فائدته، وأكتب أكثر.

ثم ينقطع سيل الكتابة...

عكس كل ما أريده لنفسي ينقطع سيل الكتابة. كنت اجلس أمام أستاذتي منذ شهر وأحكي لها أنني الآن أعافر للخروج من حيث تحدث لي الكتابة إلى حيث آتي أنا بفعل الكتابة عن عمدٍ ومثابرة. الآن ألضمُ الخيط المقطوع وأخطو خطوة صغيرة نحو ما أريده لنفسي. أسأل نفسي؛ لماذا أخاف من الأشياء الجميلة التي أريدها، لماذا تخيفني وأهرب منها إلى لامنطقية الكآبة والعجز. الآن أكتب. وأبكي. وأؤمن بحكايات الجنيات أكثر. وأبكي وينزف الحبر من رحمي المتخيلة، التي تطاردني في الأحلام. ولست أدري لم اخترت أن تكون الرحم مؤنثة. أبكي وأنزف حبرًا وأترك عملي وأطارد ستائر الحيرة وغموض ما قد يأتي. وأعلم انني محاصرٌ في الوحدة وفي الكتابة التي لا تولد. عكس كل ما أريده لنفسي ينقطع سيل الكتابة، وتنقطع المثابرة فأترك عملي الذي يتحداني، وأهرب. آتي الفعل الأكثر بغضًا إلى قلبي وروحي. ربما أزعم عكس الهرب خارج هذه السطور، لكن هنا، وسط السطور التي أغزلها من ثوب روحي تحت أضواء المكتب الساطعة لا يمكنن أن أزعم غير الحقيقة. أنا أهرب. ويبدو الهرب مثل رفاهية أسرقها وسط وقت عصيب أعافر فيه لأخطو كل خطوة. ماذا بعدُ؟ الحقيقة التي أهرب منها هي أنني أهرب من المسؤولية. أيقظت كلمات يسرا كل صدى النداءات البعيدة التي أهرب منها هي أيضًا. كنت أحكي لسلاف عن أعتقادي أنني لا أستحق الخير الذي مُنحتُه، فتقول هي فلتعمل لأجله حتى تستحقه. وتقول لي إسراء «هو إحنا مش هانبطل نجري من الحاجات اللي بنحبها وبتختارنا عشان إحنا أكشوالي مهابيل وعبابيط ومقتنعين إننا منستحقش الحاجات دي؟»

نعم، هربت من فرصة السفر إلى أمريكا حين اختارتني الفرصة، ثم هربت من فرصة إتمام دراستي في سنة حين اختارتني الفرصة الثانية لثاني مرة، ما كنت لأصدق ولن أصدق أن تأتيني فرصة ثانية مرتين، هذه هي خطيئتي؛ الكفر بأن المعجزات قد تحدث لي أنا أيضًا، والهروب منها. خطيئتي العظيمة هي الهرب. الآن أغرق في وحل العجز والحيرة، وأرى عامي الرابع والعشرين يتم وأنا عالق منذ عيد ميلادي الماضي في مكاني لا أتقدم. هل أنفجر مثل البركان؟ هل أنفجر ثم أفيض مثل الحمم السائلة؟ أم أنني في الحقيقة أذوي وأذوب في وحل العجز والحيرة؟


ثم تخيفني كتابتي ويخيفني الاعتراف بهروبي وتقصيري. يخيفني كشف كل هذه الهشاشة والحيرة. أتخيل نفسي فرخًا محبوسًا في بيضة صلبة، أنقر قلبها بحروف صغيرة صلدة، أطرق رأسي حتى تنزف، أهتز، أصرخ، أبكي في عجز. أتخيل نفسي مطرًا محبوسًا في غيمة، تحملني الغيمة من وطن إلى آخر على غير إرادةٍ مني. تخيفني كتابتي هذه، ويخيفني الاختيار، وانتهاء الدرب، وجفاف الكتابة...

الخميس، 25 يونيو 2015

ملح الكتابة ونورها





اكتشفتني الوحدةُ جالسًا منفردًا أتأمل شجرة البومباكس العظيمة وسط حرم جامعة المنصورة فوُلِدتُ مرة أخرى. تلك الشجرة التي نبتت من حلم ما ثم جلست مرتاحة توزع أثواباً من روحها على العابرين في مجالها. بحثتُ عن أستاذ يعلمني الرسم في الصباح التالي، رسمت عشرات الأشجار والمروج في مرسمه الصغير ولم يكن من بين أيٍ منها شجرة بومباكس واحدة. رسمت عشرات الأشجار والمروج ثم انهار السقف عليها وانهارت الجدران والطوابق الستة العتيقة فوق المرسم والأشجار ومحاولاتي جميعًا، ولم ألمس ريشة واحدة ولا أنبوب لونٍ منذ ذلك اليوم، لكنني كتبت. كتبت عن العالم الأخضر الرقيق الشفيف الذي يوازي عالمي، عن أسماء الأشجار التي لا أعرفها والزهور الصغيرة التي تتفتح في شق جدار غرفتي حيث تنفذ الشمس. مدينة الأمل للطلبة؛ حيث كنت أسكن، تبدو كمزحة ثقيلة، لا فسحة للأمل فيها حتى اكتشفت نفسي في الكتابة.

 لا راحة في العودة إلى مدينة الأمل الغائب، ولذا تتوه خطواتي وتدور في المسافة بين قاعة الدرس ومدينة الطلبة في نهاية الأيام. تعثرت في جسد طائر أخضر ملقى على الأرض ذات يوم في أول الربيع. كان الطائر زهرة سقطت من عشها على جناح الشجرة الهائلة الممتدة في الفضاء. تهز رياح الخماسين فروعها فتسقط الأزهار الحمراء الضخمة، يذوي لونها الأحمر سريعاً وتتحول لطيورٍ خضراء ميتة. رفعت رأسي نحو الشجرة فملأتْ قلبي برهبة غامضة. لم تكن الطيور الخضراء الميتة ميتة، كانت تهمس برغبتها السرية في الامتداد لحيوات أخرى، وكانت شجرتها تتنفس ببطء، ينمو حولها سياج من أجساد الطيور شبه الساكنة، يزحف السياج نحوي ويأسرني أنا أيضًا ببطء. ملاتني الشجرة بسطوتها وهمسها. ابتلعتني الشجرة ولمست قلبي. رأيت الموت يلمس قلوب زهورها الطيور، وتذكرت صوته. لفظتني الشجرة على جانب الطريق فركضت إلى غرفتي وفتحت دفتري الأخضر. همست لي الشجرة أن أكتب، فاستندت عليها وملت نحو الكتابة.

 خفقت الطيور الميتة أجنحتها فسقط جدي من عالم الحزن إلى عالم الدفتر. أراح رأسه بين سطرين وابتسم. ارتشفتُ من الكتابة ما شاءتْ لي حتى تصالحت مع فقدانه. كتابة جدي كانت امتداد حياته بين يدي؛ كتبته ببساطة كما كان ورأيت الموت لأول مرة وديعاً آسرًا ومسلوب الإرادة. خفقت الطيور الخضراء أجنحتها فرأيت نهراً يفيض ويغمر غرفتي، قلب التيار أدراج مكتبي وبعثر محتوياتها؛ رأيت احلاماً صغيرة مكتوبة على أقاصيص أوراق طفولتي، ورأيت دربي لا يمر بجامعة المنصورة حيث كنت، ورأيت أبي يبكي حين وجد جدي مرتاحاً بين سطوري؛ ورأيت نفسي تائهًا مندفعًا... جف الماء وبقيت أقاصيص الأحلام الصغيرة سابحة في فضائي، كنت أميل نحو الكتابة وأسقط معها في قلب الحياة ولم أكن أرى ما أراه الآن.

متى لمست الكتابة أول مرة؟ كنت أستند على زجاج الشباك في شقتنا الصغيرة وكنت صغيرًا وكان صيف المدينة حارًا. ركضت نحو أمي أحكي لها كيف طلب مني مدرس الفصل أن أكتب عن الملح، وكم تبدو الكتابة محيرة، ماذا في الملح، أكثر من كونه ملحًا، لاكتب عنه؟ فردت أمي أجنحتها البيضاء الفسيحة وضمتني إليها، حكت لي أن غاندي علّم الهنود كيف يستخرجون الملح لأنفسهم من البحر، قالت ما يشبه أن الملح قوة، وقالت أن الملح أبيض مثل الثلج، ثم قالت أن الملح أيضاً شفاف كألماسات صغيرة، وضعت في يدي الصغيرة حفنة ملح وقالت أن الملح مسحور، وسألتني كيف ذهب الملح إلى البحر؟ قدمت موضوع التعبير لأستاذي في الاسبوع التالي وكتبت ما شاءت لي الكتابة أن أكتب عن بلورات الملح خفية السحر طيبة الأثر. ثم كبرت ووجدت لسان العرب يقول أن الملح هو ما يطيب الطعام به، لكني لم أجد من يشرح لي كيف تطيب بالكتابة أيامي، أو كيف تلتهب جراحي بملحها: كبرت ولم أجد ما يعرّف الكتابة أو يحكي كيف تغرسني في قلب الألم ثم تجردني من كل الشعور.

بين حياتين وجدت نفسي حين سبحت خارج غرفة الحلم، قادني فيض النهر إلى مدينة شريرة ثم لفظني على  شاطئها اللامع. كانت الأرض زلقة وأحلامي الصغيرة زغبها مبلول وقلوبها مفزوعة، لا يدري أيٌ منا –أنا أو الأحلام أو البيت على ظهري-  إلى أين يقودنا الدرب الجديد. كانت الخطوة حلماً وكان الحرف، ومعاً تعلمنا المشي على أرض المدينة الشريرة وتعلمنا الكتابة.


«طفلي الصغير، من رحمك المسحور تولد أول الحروف وآخر الساحرات،
عليك الآن أن تقف، أن تشد عودك كرجل شجاع يسعى لإتمام رحلته،
 
وأنت تعلم أن إتمام هذه الرحلة يضعك على عتبة رحلة أكبر ومغامرة أكثر إثارة، وغموض لذيذ وكتابة لا تعرف طعمها حتى الآن... وأنت تعرف أنك تحب الكتابة حتى التخمة، لا شيء يرضيك مثلها... ربما قُبلة مشتهاة وما بعدها؛ ربما حضنٌ طال انتظاره.
قِف الآن وأنت تعرف أن الكتابة ستقودك على الدرب، أنت تعلم أن الكتابة هي سيفك ودرعك وهي مفتاحك وحذاؤك المريح...
هي الدرب والفرس وقنديل الزيت... هي أوراق الشجر، وهي النسيم العبِقُ برائحة المحبة... وهي شربة الماء الهنية بعد رحلة شاقة... أنت تعرف أن مهمتك الكتابة، فأكتب، ولا تنظر خلفك.. لا ترهق نظرك فيما يدور خلف الأفق.. نظرة في محل خطوتك تلزم الآن، ونظرة تمهد للخطوة التي تليها،
ونفَسٌ طويلٌ،
ثم نفَسٌ أطول»

الخميس، 11 يونيو 2015

صندوق بريد يطفو على صدر ليلة



اليوم: العاشر.
المكان: أمام بحر.

ماذا تقول الرحلة؟
تقولُ أبحر. تقولُ أبحر. تقولُ أبحر.

روحُ الرحلة تتلبسني، تهمس في صدري،
تملك أمري كله،
تدفعني كي أُبحِر في عاصِفتِك؛

أصنع طوفاً من كلماتي/
من أعوادِ الياسمينِ وأغصانِ الليمون،
وزهور المشمشِ وخيوطِ الشمسْ/
أصنع مرساةً من حجرٍ فيروزّيٍ/
ساريةً من عاجْ
وشراعاً
من ثوبك الأزرق التائه في عينيّ منذ عرفتك/
ثم أبحر في عمق لياليَّ بلا دفة...

(...)

اليوم: تاهت الأيامُ بعد أولِ ألف.

من أنتِ؟

هذي الليلةُ،
أمواجكِ تغمرُ طوفي...
تحيي طيفي/
أتذكَّرُ
في مرآتي:
كنتِ أرق من صباح ربيعيٍّ
وأبهى من سمائه،
ساحرةً كفجر ليلته الباردة نسبياً
/وكنتُ أسهرْ/
كنتِ دافئةً في عينيِّ
مثل شمس الصباح الربيعي المستيقظة بعد كسل الشتاء/
أتذكرُّ
في عينيَّ كنت بريئة كروح الطفولة
وغامضة كقلب هذا المحيط الفسيح/
أمام عينيِّ تبتعدين في إصرار أمنيةٍ تؤمن أنها
ليست لي./
عزيزةً عليّ/
وقريبةً
كالألم المحيّر في أوصالي.
كنتُ أسلّم أمري للموج
وأشهد أني أحبك.
وكان الموجُ يدفعني
نحو بحورٍ جديدة...
/ما زلتُ أسهرْ/

(...)

اليوم: أربع سنواتٍ؟ خمسة؟
اختلط الأمرُ علي بعد البحر الأول.

أصنع من كلماتي عصافيرَ ورقية، وأطيرها.
كتابات آخر الليل خطيرة على متجرعها -تقول النشرة الطبية-
يُحفظ بعيداً عن متناول يد التائهين -تهمس النشرة الطبية-
كتابات آخر الليل تتوه في العتمة، وتغيب، وتكسر قلب الشاعر.
وكتابات آخر ليلي تتكثف في سقف العالم منذ بداية الرحلة؛ 
سحاباتٍ صغيرة معتمة/
تأكل السحابات أوراق النجوم
تقتنص العصافير الهشة
وفي الصباح تمطر السماء أجنحة معتمة وهياكل ورقية..
فأعيد تدوير كتاباتي القديمة/
امنحهُّن حياة جديدة -أقول لنفسي- وأنفخ في أقصوصة الورق/
أقول لنفسي أشياء عديدة،
هل يمكن للكتابة أن تشبه الطبخ -في صدقٍ- أو أنها لن تفعل؟
ربما أغزل الكتابة وأحيك للعصافير منها ثياباً 
مضادة للعتمة.

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - III





[.....] I am amused with the funny fresh feeling in my wings; I am amused to the tempting sensation of getting lost where every direction seems like a forward to me. 

Where to go now? I see my reflections clearer than ever, I know what I want but I am floating like a steam boat with no coal. It never gets easier, that is the new truth and the only principle about life as I see it now; it never gets easier but I become better at coping with it. I stay a little bit shorter in bed every new morning, I eat cleaner food, I channel my despair and frustration into running and meditation… the one thing I really need is coming too slow to be enough, I write. I write, but it is not enough for those waiting my writings; I wonder what is holding me back if it wasn’t fear? What is crippling me and my soul that hard? The words I have not written condensed together and made a sea of songs. I rest in the waters of the sea inside of me when I am tired of flying. I take a never ending deep breath and I feel how my body greets the air flowing inside of me. The exhaled air carries many songs from the sea inside of me and my entire body resonates with it like a vintage wooden music box. I am fully connected to myself and the world. I see my sadness, I touch my fears, I push my body to the next trustless step, I set my sails into a sea of faith.

At the end of the day I lay down on a sheet of fresh green grass that is hidden between the realms of my existence, I gently stretch my muscles and then release them, I inhale a never ending deep breath, I exhale a never ending lullaby; the songs I have not sung transcend throughout the layers of my disappointment and depression… they transcend outside all the realms I can see, outside the whole universe…. The songs I have not sung whisper quietly to me and lift me like a cloud of green stardust… I am transcending, I am limitless, I am wide awake; I am a word written on the milky ways with bones and flesh and a humane soul.


"I move slow and steady
but I feel like a waterfall..."
 [Relief]

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - II



April, I am wide awake; I cannot tell how many days have passed since my voice came back to me. I am wide awake, I am lost in the white of my bed sheets and I take a never ending deep breath, I close my eyes and I quietly pluck one feather of depression at a time. The deep roots of my depression scream in pain, they clench too hard on my flesh. My pain becomes too big to be felt anymore. I pluck harder and harder, every feather takes away a chunk of beating flesh and neurons. I pluck them harder. The white of my bed sheets is lost into the bleeding disfigured feathers; the spooky nightmarish feathers that are not mine anymore, and the flesh that’s tied to my soul with letters and ink and the dust of burned dreams. I am wide awake. Walking is like flying, I am so empty, I am filled with little deep holes, dark and bleeding; I put on some light perfume, a nice t-shirt and a pair grey of sneakers; my hollowed body has become perfect, so perfect for drifting and flying; a messy cloud of bone dust and dried flesh is floating above a sea of silence and mountains of disappointment. 

May, where to go now? The words I have not written squeezes through my hollowed chest and fill the holes, they sprout little green and blue feathers. Where to go now? The words I have not written are heavy. They pull me downwards and slice through the cloud, the sound waves carry me, and I kindly stretch my featherfull wings, I take a never ending deep breath and I clap them together… I am amused with the funny fresh feeling in my wings; I am amused to the tempting sensation of getting lost where every direction seems like a forward to me.

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - I



[Recession]

February – March 2015, I am falling apart. What I feel is indescribably ambiguous. I can’t bear the weight of the words I have not written and the steps I have not taken; their pressure makes tiny painful cracks through every bone in my trembling body. I cannot hold the heart beats inside my chest; the loud inconsistent beating shutters the cracked bones and leaves my chest wide open; I collapse into dreams of death and non-existence. I am falling apart. The indescribably ambiguous feeling fills the cracks in my bones and melts the shattered pieces together. I am wide awake. The poems I have not written and the walks I have not taken are hunting me. My melted bones are stiff and unresponsive. My soul is scared and anxious. I take a never ending deep breath and I scan how the wooden floor feels beneath my passively relaxed body. I’d rather feel it beneath my feet, but I have been struggling to stand up for too many mornings to remember. I collapse. I fall into a sea of silence. My footsteps are scattered everywhere, I cannot remember where to go; I cannot see the light, I cannot trust my next step, I walk in spirals, my reflections collide and I collapse. I am wide awake. I take a never ending deep breath and I scan how the keyboard feels beneath my fingertips. My hysteric heartbeats echo in the furthest corners in the space I occupy, the echoes are hollow and heavy, their teeth bite my fingertips and the writing slowly bleeds out. I do write. I do have a voice; it rattles but it is audible; it is thin but it is visible. It seems ghostly, but surely it does exist; and it is dear to me.

الأربعاء، 25 مارس 2015

التمرحنة لا يزهر إلا بين ضلوعه







(1)
متى تطيبُ روحي يا ربي.

ها انا أرقدُ/
أصابعي المرتخية معقودة حول أوردتي. ولا أكتب.
أصابعي معقودة ولا أكتب. أصابعي معقودة حول أوردتي فلا تجري الحياة في جسدي كما يجب. وأصابعي مرتخية كلما استندت عليها اصطدمت بالأرض. والأرض تشدني طوال الوقت. وجواز سفري أبيض ينتظر الاحتمالات كلها، لكنه بعيد عن أصابعي. نسيت أين وضعته. في الحقيقة نسيت أشياء كثيرة: في أي جيب يرقد، وفي أي بلدة سقط مني قلبي الأخضر، وكم أمتدت جذوره البيضاء الطرية خلفي. نسيت تاريخ ميلاد أمي، في الحقيقة لم أحفظه أبداً. ولم أعرف صوت جدي الاول، ولم يتكلم الثاني كثيراً حتى آلف صوته. رحل جدي ثم ندمت على كل المرات التي قطعت فيها الطريق مسرعاً حيث يجلس وتظاهرت أنني لم لم أسمع ندائه. كنت غضاً لم أعرف الموت عن قرب ولم أتوقعه. ثم هبط الموت على بعد اصبعين من قلبي.

(2)
هبط الموت في حجر أبي حيث يرتاح جدي. غلف الموت صوت جدي في أشرطة بيضاء. قبّلت رأسه ثم أحكمت عقد الأشرطة حول كلماته القليلة وندائه من فوق مقعده على ناصية القهوة ذات الجدران الخضراء. أحمل ماء الغسل الأخير في دلو أبيض، أقطع صالة البيت المكشوفة من أي غطاء في مدارات بيضاوية، ولا أخطو على نفس الموضع مرتين. تركت جدي هادئاً وليناً ووديعاً داخل شرنقة موته البيضاء ورحت أركض عبر طرقات مدينتي الصغيرة. نسيت ما الذي أركض خلف، لكنني ركضت أكثر. نعم، كنت أبحث عن مفتاح القبر. في مدينتي الصغيرة يخبؤون الموتى خلف جدران عديدة. ركضت ولم أجد المفتاح. كانت الشمس تركض مسرعة منذ الصباح، وكان جدي يطفو داخل شرنقة موته البيضاء فوق مئات الأكتاف والأقدام مسرعاً نحو مسجد المدينة الجامع. تسرع الأقدام نحو بيت الرب، وتسرع قدماي نحو باب القبر المغلق خلف سور حصين. أكسر على الموت بابه المغلق. أضع أصابعي العشرة في عينه اليسرى وأستخرج حدقة عينه الرخامية الباردة. تهاويت على الأرض وتركتها ترتاح في حجري. سالت حشرات سوداء من عينه المفقوءة، وفاض جو حارٌ وقابض في فضاء المكان. جلست ألهث من الحزن الراقد فوق أكتافي منذ ليلة الأمس. زحف عم شحاتة داخل عين القبر وأزاح آخر الموتى المرتاحين على سرير الرمل، سمعت عظامه تخطو نحو زاوية القبر المظلمة، ثم تتكوم ببطئ فوق جيرانه. قبور مدينتي الصغيرة لا تعجبني. أعرف أنني لن أرتاح إن جلست أنتظر نهاية العالم محبوساً داخل عين مصمتة من القرميد الأحمر. فتحت النوافذ ليغسل الهواء جو المكان. يفيض النور العسلي داخل الغرفة الحليبية. ليلة الأمس أجلست جدي إلى جواري على الطاولة الزرقاء، طلب كوب حليب بالعسل ولم يكمله. قال «غطيني» فوضعته في سريره، أرخيت شاله المعقود تحت ذقنه، فردت البطانية الحمراء الخشنة فوق جسده الممدد وقبلت رأسه.

(3)
وضع جدي رأسه في حجر أبي، كرر الشهادتين ثم صمت قليلاً. نظر إلى السماء، كاد يبتسم ثم.... «يا فرج الله يا قريب يا رب» قالها ثم نزفت أنفه قطرة دمٍ واحدة ومالت رأسه على حجر أبي. لا أذكر ماذا كتبت عن جدي بعدها في دفتري الأخضر القديم، أذكر أنني عدت إلى بيتنا بعد غياب شهر أو يزيد، نسيت حقيبتي مفتوحة بجواري وجلست آكل. عاد أبي إلى البيت في منتصف النهار على غير عادته وجلس بجواري، تناول دفتري وقرأ ما قرأ ثم بكى وضمني إلى صدره في حضن طويل. لم أتجرأ على الكتابة بعدها لشهور طويلة.

حين رجعت إلي الكتابة لم أجد جدي حاضراً. سنوات ثلاثة لا تصل إليه كتابتي. ثم يجد هو طريقه إلى دفتري حين جلست ليلة الأمس أكتب عجزي عن الكتابة. ولست أدري لم كتبت عن حضور الموت بدل الحياة. جدي الذي عرفته لا يشبه حكايات الآخرين عنه. طفل ثمانيني هادئ ومنكمش. يجلس على ناصية القهوة المواجهة لسور المقابر. يسير بهدوء عبر شوارع المدينة التي لم تتغير في عينيه منذ ثلاثين عامًا. يصف جدي معالم مدينة لا وجود لها. يسأل عن الساعة عند انتهاء النهار مراتٍ عديدة، ينسى الإجابة ويعيدُ السؤال وأتعلم كيف أجيبه دون أن أثير حيرته. يسألني كل ليلة عن أم كلثوم، هل تغني الليلة؟ يتأكد «هي الست لسة عايشة؟» وأعيد الإجابة كل ليلة دون ملل. يرفض تقبل موتها فأحكي له التواريخ والتفاصيل الصغيرة، يقول «تؤ تؤ تؤ» ثم يتقبل الحقيقة ويدعو لها بالرحمة، ثم يعيد السؤال في الليلة التالية. يبتسم جدي وهو يحكي «أحمد ابن عادل ربنا يبارك فيه فسحني امبارح في اسكندرية» ولم أكن عرفت الطريق إلى الاسكندرية حينها، لكنني لا أنكر عليه الرحلة ولا الرضا. «قول لهم يا أحمد» فأقول «حصل» فيبتسم الآخرون في تآمر. يرفض الطفل الثمانيني تناول ادويته لكنني أقنعه بالحيلة، يرفض الجلوس في غرفته لكنني أقنعه بحيلة أخرى، أتفق مع صبي القهوة كي لا يغير له حجر الشيشة أكثر من مرة واحدة، يجلس جدي ويطلب لي كوب ينسون وحين يرفض فتى القهوة تغيير حجر الشيشة يلتفت إليّ جدي «تصدق إنت ابن كلب» ويضحك في استسلام عابث ويقول «قوم روحني» نتمشى سوياً، يقرأ جدي الفاتحة ويدعو لأسلافه الراقدين في مقبرة العائلة على ناصية الطريق إلى بيتنا.

(4)
أجلس وحدي في غرفة المقبرة، يطفو جدي فوق مئات الأكتاف والأقدام على الطريق المنحدر نحو المقابر، تمتلئ الغرفة عليّ فجأة، أحمل جدي في شرنقة موته البيضاء بين يدي، يبدو أخفّ من كل الأشياء، أضمه إلى صدري لحظة أطول مما يجب، أضمه إلى صدري بقوةٍ فينغزني أحدهم كي أفلته... يريحه عم شحاته على سرير الرمل ويرخي الأشرطة التي أحكمتُ عقدها منذ ساعات. يعيد عم شحاته حدقة عين القبر إلى مكانها ويعالجها ببعض الاسمنت الأبيض والرمل. عشرات الأيدي تربّت على كتفي ثم ترحل... يفيض الهواء بارداً، يهز وحدتي الجديدة برفق وأتلو ما تيسر لي من سورة ياسين كما يطيب لجدتي. كنا نجلس حول جدي منذ شهورٍ طويلة، ظنّ جدي أنه سيموت وصدقناه، غامت عيناه وبردت أطرافه وجلسنا جميعاً نبكي في صمت، ثم دخلت جدتي إلى حجرته تزحف على يديها وقدميها، جلست بجوار رأسه على الكنبة الحمراء العتيقة وقرأت فواتيح سورة ياسين فغرقنا جميعاً في ضحك هستيري وسط بكائنا، ثم استيقظ جدي وعاد من موته المنتظر. راقبته طوال ليلة الأمس منتظراً أن يستيقظ مثل المرات الماضية لكنه لم يفعل. قرأت سورة ياسين مرات عديدة لكنه لم يستيقظ ليلة الأمس ولا هذا الصباح.

(5)
أهيم اليوم في شوارع الاسكندرية، تراودني ذكرى فسحتي المفترضة مع جدي، حكى جدي فيما حكى أننا صلينا في أبو العباس، أمر بحوار المسجد في الصباح وأعود إليه في آخر النهار، أودّع ضحى ثم أعبر الطريق، يجلس عجوزٌ يشبه جدي كثيراً قرب درجات السلم.  أصعد عدة درجات ثم أعود إليه. يبتسم ابتسامة مثل ابتسامته ويغمض عينيه مثله، يسقيني كوب ماء محلى بماء الورد، كانت هذه عادة جدتي في طفولتي الأولى. أردت بشدة أن أقبل رأسه ولم أفعل. ناولته الكوب الفارغ وهمست لطيف الذكرى «ربنا يخليك يا جدو.» صليت ما شاء الله لي أن أصلي، ثم قضيت الليلة هائماً بامتداد الكورنيش.

(6)
زارني جدي في الحلم فجأة. هادئاً ومريضاَ. أساعده على صعود السلم أو إيجاد الحمام. أساعده كما اعتدت ثم يختفي. يزورني مرة أخرى، يسير بجواري على دراجته الحمراء العتيقة، نقطع الطريق من السوق إلى البيت في صمت. يفاجئني جدي في رؤيا غير متوقعة بعد شهور طويلة: يضغط برفق على كتفي ويقول «أنا سعيد إنك حلو وكويس»  يلقي ببعض التعليمات للعامل في الزريبة ثم يبتسم ابتسامة جميلة مضيئة، تفوح منه رائحة طيبة كأنما خرج لتوه من حمام دافئ وذقنه حليقة.«يطبطب» جدو مصطفى على ظهري ويناديني أبي، نلتفت سوياً فيقول «اترك جدك وتعال وحدك» أخطو تجاه أبي ثم أستيقظ.

(7)
جدي الحبيب،

أدرك الآن أنك وجدت الفرج القريب الذي اطلعت عليه حين فاضت روحك، ولا أملّ من إرسال الهدايا الصغيرة إليك كلما تيسر لي. يفاجئني الآن أن أستأنس وجود المقابر في منتصف الطريق بين بيتنا وأي مكان في فارسكور، لم أعد أدور في الطرقات الخلفية كي أتجنب المرور بها. يسعدني ذلك بطريقة غير قابلة للفهم. هناك صفاء ما غامض يغمرني كلما عبرت بخاطري، وكلما عبرت أنا بجوارك. يطمئنني حضورك المستمر. يطمئنني طيب ذكراك. ويطمئنني رضاك عنّا.

لكنني ما زلت تائهاً يا جدي، حين فاضت روح نينة أمينة كنت تائهاً وحبيساً في طرقات المدينة الكبيرة البعيدة، مدينتي الصغيرة مثقلة بحزن كبير في عيني منذ وصلت في تلك الليلة ولم أجدها. محبتكما ممتدة رغم الغياب، لكنني أكثر هشاشة مما يعتقد الجميع. كانت نينة تبكي حين أحملها وتقول «ربيتك وشيلتك وانت عيل عشان تشيلني لما أعجز» وكم آلمني بكاؤها... غيابك جدي مكتمل لكن غيابها منقوص. غيابها ضياع. ربما لهذا السبب أكتب عمن ضاعت مني أكثر ممن غاب. أراني ميتاً في رؤياي وأبحث عن جدتي وسط جيراني الموتى تحت الأرض ولا أجدها...  ما زلت تائهاً يا جدي لكنني أكتب أكثر مما مضى، أشد خيوط الحكايات وأعقدها سوياً، أشيد من الكتابة جسراً خفيفاً وشاطئاً ناعماً وبحراً صغيراً أحمله معي حيثما ذهبت. الليلة قلبي خالٍ ولهذا أكتب. أدفع عني الاكتئاب بأستار الذكرى الطيبة وبريق الامل المعقود على مغامرة قادمة.  سأشد ثوب حكايتي وأعقده في طرف الحكايات المنسية في طرف الأرض، سأهيم كما يشاء لي قلبي والقدر، سأغرس فرع التمرحنة الأخير في جيب معطفك الصوفي الذي تحبه، وسيزهر بين ضلوعي..

                                                     طبتَ جدي، وطابت روحك. 



                      

الأحد، 22 فبراير 2015

آه يا شمس


الشمس... 

تستيقظ الشمس
ترفع قدمها المتكاسلة وتخطو عبر الأفق البعيد الأجوف
هنالك
ها هي..
شمس تهيم على وجهها
تتمزق في فضائي المختنق
تصطدم بليلٍ متحجرٍ
تتعثر في قطع أحجيتي المتناثرة
بين صدري ومعدتي/
شمس تائهة
تبحث عن بابها نحو السماء
تشتاق لمقعدها الأزرق المتوهج/
تفزع في الليل
في عتمة كوابيسي الفوضوية تغرق--
تركض--
تتعثر--
تشهق--
تسعل، ويسيل النور على فمها
يتفصد من أقدامها الملتهبة
ينطفئ النور
ويتجلط/
حروف النور المتجلط على وجهها تتكسر
الألم في قدميها يلمعُ
زيتاً أسود
على وجه بحر عاجز.
«ماذا تفعلين يا شمس؟
قلبي الكبير متعب وقاحل
كلما امطرت السماء بداخلي
ضاع حليبها بين الرمال
وذابت قطعة من القلب
أو انكسرت
بلورة صغيرة حادة جارحة
بقعة رمل جديدة تنمو
ولا تخفق...
تنساب عبر ضلوعي.
ماذا تفعلين يا شمس!»/

تركض الشمس خلف حليب السماء
تنزلق عبر فقرات ظهري المنحنية،
تتعثر في قلبي المنقوع في حوض العظام/
تغرس الشمس الفزعة أقدامها في رمال القلب،
تلمس جروحها برودته
وتغمرها لذة غيبوبة.
تغرق الشمس في بحر رمالي
وتغيب خلف أفقٍ أبعد

وتنام.

السبت، 14 فبراير 2015

فراشتي




عزيزتي
خلف البحار البعيدة--
أمام المرآة التي لا تخبرك الحقيقة كاملةً؛
تلك التي تنظر إليك عبر الجهة الأخرى
معجزةٌ على وشك الوصول،
آيةٌ أؤمن بها.
روحها الآسرة مخبئة بين ظلال قشرتها الرمادية
بين تجاعيد الأوراق الخضراء الندية
وشقوق الأغصان الشائكة التي تزحف عبرها في الصباح
وبين الأجنحة الطرية الملتفة حولها تحت ذلك الجلد..
منتظرة صعودها/ صعودك الهادئ نحو شمس قريبة.

عزيزتي
ساعة مكتبي تشير إلى الآن
وساعتك البعيدة ما زالت تُشير إلى أمسي
لكنك معجزتي الباهرة
وإلى روحك تصبو روحي الصغيرة.
يجتاحني شعور غامضٌ حين أكتب إليك
يشبه الانتماء إليك وحدك.
وحدكِ
أنتِ المدينة في قلبي،
وأنتِ رائحة الفجر حول بيت طفولتي،
ولون أحلامي المأسورة لديك يُشبه العسل في كوب حليب طازجِ/
أنتِ السكن المُشتهى،
حلمكِ دفئ
هو هرولة الوحشة نحو باب الرحيل
واندفاع فيض الحياة في أوديتي المهجورة.

عزيزتي
دودةَ القز التي تحدق في المرآة خلف بحارها البعيدة
تقولين
«كيف أحبكَ ولا أجد نفسي حين أنظرُ إليّ؟»
أرى انعكاس وجهك على زجاج ساعة مكتبي
فراشة ً
مدهشة ً
بديعة ً
وبعيدة، 
أمام مرآة لا تقول الحقيقة

عزيزتي خلف البحار،
أكتب إليكِ عينيَّ
انظري فيهما ترين ما أرى
أكتبُ إليكِ أناملي
تنزف شوقاً
أكتبُ إليك الكتابة
تطاردني، ولستُ أهلاً لها
حروفها تتهجاكِ
«فـ ـرا شـ ـتـ ـي أ نـ ـتِ»


  أكتوبر 2014       

السبت، 10 يناير 2015

محبرةٌ جافة ودواءٌ مُعتّق



أردت أن اكتب عن عجزي عن الكتابة. عن طرق رأسي عشرات المرات بباب الصفحة حتى يسيل منها الحبر، ويتخثر على وجهي دون إجابة. أردت أن أكتب ولم أستطع. فتحت دفتري القديم وأخذت أبحث عن آثار عجزي وسط أكوام الكتابة. أتساءل لما تتعاظم هشاشتي كلما خطوت على الدرب. أجد من كنتُه يبحث -واعياً- عن شفائه وسط الكتابة/ فأشفق عليه. أنزع عنه ما ستره من الكتابة وأعيد حياكته، وأشك في إيماني للحظات طويلة... أين تختبئ آلهةُ الكتابة؟

أطوي الأيام مثل طرفي كوفيّة صوفيّة قديمة.
الأربعاء 7 نوفمبر 2012
الجمعة  9  يناير 2015


أعقد الخيط قرب نهاية نهار شتوي بعيد...

(1)
الرابعة عصراً


الكتابة أحياناً تشفي... وأنا في هذه اللحظة في أمس الحاجة إلى الشفاء!








هناك دخان ما محبوس بصدري منذ الأمس... ولا أدري كيف أتنفسه! 
وسلك شائك يعتصر القلب في صدري، يدور حوله فيأتيني نبضه غريباً موجعاً؛ ليس نبضي..

وأريد أن أبكي.. 
ربما أحتاج وجبة لحمٍ مطهية بالحبِّ وقِدراً من "شوربة" أمي الساخنة!

وأسير باحثاُ عن قصيدة لا أعرفها كالمحموم/ كالمحموم قضيت الليلة الماضية، معظمها، أبحث عن قصيدة تطفئ ظمئي المجهول/ تملأ شقوق أرضي بطينة طيبة وحروف خصبة منجرفة عن وجه القصيدة... لم أجدها بعدُ.... 

وأهرب من شيئ لا أعرفه، كالمُطارد في عمق ظلمة...
وأريدُ أن أبكي...

أريدُ أن أُدفن تحت جبل من ماء الفرودس المُحير.. حالاً والآن... أشتهي تلك النهاية/
وقبل ذلك الموت أريد أن أصلي العشاء، ثم أصلي أجمل ركعتين أهبهما لجدي الراحل، ثم ألحق به هناك؛
هناك في الأرض الفيروزية الهشّة..

ولما لا أكون قرميدة بين درجات السلم الموسيقي الصاعد نحو أرض الحكايات الخضراء العتيقة/ أتسائلُ/ لما لا أتماهى بين النغمات وعلامات النوتة؟

وأحاول أن أحتوي العالم في شهيق هائل واحد/............./ ثم أزفره في تنهيدة غاضبة 
تغسل قشور الاكتئاب عن وجهي، تهز الجدران الرطبة المائلة على صدري، ربما تسقطها..


(2)
العاشرة مساءً

أكتشف أن الكتابة لا تشفي أحداً/ أو لا تشفيني أنا... الكتابة تستأصل جزءاً مصاباً من الإدراك أو الشعور وتدفنه في أفقية الصفحات.

عندما أصابني الحب.. أصابني هوس بالكتابة... وعندما تلاشى ظِّلُ الحب عن حقلي وسقط الريش عن أجنحته الدقيقة اشتد هوسي بالكتابة... وحين لا أكتب أكتئب/ أمرض... تحتبس الأحرف في قلبي تجرحني زوايا رسمها الحادة، تخترق بطانة قلبي وتخدش رئتي فتسيل أنفاسي... أضغط على أصابعي لتستمر في الكتابة وليستمر النزيف.

ولست أدري حقاً كيف نزفت هذا البحر الصغير وما زلت أكتب. لست أدري كيف أكتب أو لمن/ لماذا/ إلى متى..... لكنني لا أسكن. للكتابة شهوة تتملكني، تغوويني بالاصغاء للتفاصيل الصغيرة. تغمرني بشهوة لنسخ العالم مبنياً على ورقة. نقطةُ حبرٍ ترسم قمراً على خد فتاة سارحة/ ترسم فيلاً أبيض يركض وسط الغيم/ تعلّق قلباً خاوياً بين أغصان شجرةٍ عتيقة فيسكنه الفطر والطحالب الخضراء الدقيقة/ ثم تهيج الفئران المختبئة خلف عباءة الليل تخدش وجه القمر، وتخلط لها السم بالحليب المتخثر على درب النجوم.

أصغي أكثر فيتناغم قلبي مع دفقات المحيط البعيد، ثم يتناغم مع دفقات الماء في شرايين الأشجار القريبة. أنصت لهمس الفتاة الساكنة في حضن فتاها في المقعد المجاور لي في آخر باص هارب من حرم الجامعة. أصغي لتبرّم النخلات الستة أمام كلية الآداب من صخب الجالسين حوالها نهاية كل يوم، وهرير القطة الرمادية السعيدة التي تأتيني حين أجلس بمفردي تحت شجرة الليمون خلف المكتبة... أنصت. أٌنصت أكثر. أدفئ الأصوات يأتيني مكتوماً. صوت ابتسامة جدتي المختزنة كهالة سحرية حول خط يدها الهش على اللوحة الورقية المثبتة أمامي؛ أكتب لها الدليل، وأرسم الأسطر الأفقية ثم تكتب هي ممتلئة بحماسة الأطفال: "أمينة محمد شعلان... أمينة محمد شعلان... أمينة محمد شعلان...."



في الليل أفتح دفتري القديم. 
أصغي لنبض قلبي
خافتاً في البرد. 
أنزع أثوابي القديمة عن صفحاتها، 
أرقِّع ثوب الليلة بها،
أشدُّها على أصابعيَ المجروحة
أقدامي المتقرحة إثر الصعود الطويل،
ومقبض القلم
وكعب كتابي العتيق الخالي/
أقطِّر الحبر الجاف عنها قطرة قطرة
أتجرعه
يختلط الحبر بالقلب/
وأصلّي 
لعل باب الليلة الموصدة في وجهي 
يلين
ولو مقدار صفحة
أو طول قُبلة مشتهاة.