الخميس، 14 يوليو 2016

ذاكرتي المزيفة، أو صوت بيبه



Hope I - Gustav Klimt



الحقيقة أنني جلست لأكتب أن صوتي أحيانًا ما يأتيني من تحت ماء مجازي يغمرني. الصوت حقيقي. تنفسي مثلًا. ارتداء سمّاعات سواداء صغيرة عازلة للأصوات الخارجية قد ينتج هكذا تأثير. لكن اليوم بدت التجربة مختلفة للحظة قصيرة. بدا الصوت آتيًا من داخل جسدي المغمور في جسد بحر حقيقي هادئ. ارتبكت حين انتبهت مرة أخرى لجلوسي على الكرسي الخرزان والطاولة الخفيفة. ثم ملأني حنين غير مفسر لصوت شيريهان وعبلة كامل وأخريات في عرق البلح وهن يغنين بيبه. «بيبه والسمن سايح/ سايح لفوق» أكتب بيبه والسمن سايح في شريط بحث جوجل، أقرأ النتائج: «أغنية بيبة الأصلية، جودة عالية» «بيبه عرق البلح» «الأغنية البديلة: بيبه –شيريهان وعبلة كامل» لكن ما يلفت نظري فجاة هو مدونة قديمة، ربما مهجورة اسمها «مرارة روح» فقط يقتبس صاحبها عنوان الأغنية، ويضع رابطًا معطلًا لتسجيل لدنيا مسعود وهي تغني بيبه في 2009. أبحث عن التسجيل في أماكن أخرى حتى أجد أكثر من تسجيل لعدد من الحفلات. لكن أداء دنيا مسعود يبدو أسرع وأكثر احتفالية من بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. يعرف صاحب مرارة روح نفسه بأنه غجري لا بيت له، عليك أن تتحمل مسؤولية الجلوس معه وحدك، فهو سيسرق ملابسك ويرتديها إذا ما لائمته. يكتب هذا التعريف بالإنجليزية، ويستخدم علامات ترقيم إنجليزية وسط نصه العربي القصير. لكنني أستمر في البحث عن نسخة بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. ربما هي خدعة أخرى من خدع الخيال؛ أو أنني فعلًا تلصصت على فتاة ساهية تغني بيبه على مهلها وتبكي خلف أشجار البرتقال في حديقة المكتبة. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة غير الخيال. أخبرتني السيدة التي تجلس في الجهة الأخرى من العالم أنها لن تتمسك بي طويلًا إذا ما تماديت في أفعال التراخي. قالت «يا بني» لم أتوقع ان تتمسك بي للحظة واحدة أخرى. قالت السيدة اكتب، انت ممتلئ بالطاقة والموهبة. قالت ترجم، لغتك جميلة ومحكمة. تنهدت الفتاة الباكية خلف صف أشجار البرتقال ونكشت في العشب بأصابعها البيضاء الدقيقة. ابتسمت أمي وأغلقت الباب ونزلت درجات السلم على مهلها في هدوء. صفق الأخ الأصغر باب غرفته في عنفوان مضحك وغضب ممسرح. وجلست أنا، أو هربت منهم جميعًا. بيبه والسمن سايح. تستكشف الأخت الصغرى عتبات القراءة، وتغيب الأخت الأكبر ساعات طويلة تغزل خيوطها الملونة الجديدة. بيبه والصعيد مات. يحمل أبي سكينه اللامعة، ويقطع الحائط قطعًا صغيرة ملائمة للأكل. يقطع الأشجار، وقطعة الأرض، والحيوانات المدجنة والسكاكين الأصغر وقواعد النحو. رشة شطة حمراء صغيرة، تصبح المكونات جميعها متشابهة. بيع النخل يا أحمد علي، بيع نخلنا كله. وأجلس أنا تحت أكوام قطع الأحاجي التي تحيط بمقعدي، أترجم دماءً ودموعًا تسيل من تقرير مكتوب بعربية ركيكة إلى إنجليزية متماسكة. وأحاول أن أعزل نزفه عن مشروع مقالة أحاول كتابتها منذ أسابيع طويلة. تسألني السيدة الأخرى عن مقالي الموعود فأهرب منها، وأتمادى في الهرب. يا أحمد علي يا أحمد علي، النخل راح ضله. وحين أحاول أن أتكوّر في بطن الماء أجد الشاطئ ضحلًا. يقيدني أبي من قلبي. يقول لا تذهب فيبلعك الغياب. لا تحاول قد تلتهمك الغربة. ولا أحاول. لكن قطع الأحاجي تذوب، مثل قوالب شمع متقنة الصنع. تذوب وتتمازج. تحتال الأحجية على نفسها، تتماسك دون أن تتحدث إلي، أو إلى أي أحد. كيف أحل قطع الأحجية المنصهرة داخل بعضها البعض؟ تذوب الأحاجي وتصبح نجمًا صغيرًا معلقًا في سقف غرفتي الفستدقية في خيالي، يملأ فضائها؛ ويأتي الليل فأصبح قمرًا باردًا وأغرق، أنا والصوت الذي أحمله في صدري والكتابة المعلقة على أطراف أصابعي، نغرق سويًا في جحيم نجم الأحاجي. تغلفني صهارة الأحاجي بطبقات ملونة، مثل أصداف لينة تتطابق مع ثنايا جسدي الأبيض الممتلئ. أتكور داخل نجم الأحاجي، وداخل جسدي؛ أتكوّر داخل رحم الأصوات. طبقات الشمع تسد مداخل حواسي جميعها، فقط أنصت للصوت القادم من هناك البعيد، من داخلي أنا. يأتيني الصوت غامضًا، مثل نفسٍ أخرى ظهرت فجأة تهمس من تحت ماء مجازي يغمرني. بيبه والسمن سايح. سايح لفوق. سايح لفوق. تطلع الشمس في عربة تجرها العصافير الرمادية الصغيرة. تبكي شمس الصباح فتركض العصافير في دهاليز السماء تبحث عمّا يلهيها. آسف، العصافير لا تركض. تقفز العصافير الرمادية الصغيرة بين السماوات الهشة المرتبة فوق بعضها؛ تهبط السلالم المصنوعة من أوراق شجرة التين. يحط عصفور رمادي صغير على عتبة شباك الغرفة في خيالي. يحرك رأسه في عصبية. يتقافز في خط أفقي محاولًا التلصص. محاولًا الإنصات للصوت المكتوم الهامس بالداخل. يهرب العصفور. –أو هكذا يبدو- يرجع العصفور فجأة. يتعلق بأصابعه المخلبة الصغيرة على وجه الشباك، يتعلق مقلوبًا. يحرك رأسه في عصبية، ينظر بعين واحدة في كل مرة. يرفع رأسه نحو الشمس المتكئة على بر النيل الغربي –نعم الغربي لأن هذه الجهة من بلدتي الصغيرة مشيدة فقط في خيالي، خلف شجرة البونسيانا التي لم تعد موجودة هي أيضًا- فتسكت الشمس، وتصمت العصافير والسماوات الصغيرة وجيوش الجيران المزعجين. يغمض العصفور عينيه وينقر وجه الشباك نقرة واحدة فيتداعى عالم الغرفة [سكتة] ولا ينهار. –هل من حقي أن أضيف توجيهات مسرحية إلى نصٍ منزوع الهوية؟ وهل يضيف المسرحيون توجيهاتهم في متن النصوص؟- عالم الغرفة لا يتداعي فجأة [كما قد تفترض الصورة المعتادة لمثل هذه المشاهد]. فقط يتفكك؛ ينفصل؛ يتمايز. الألوان تتنافر وتبتعد، خيوط النسيج تتخلى عن بعضها، يسيل الغراء وتخرج المسامير الصغيرة من أخشاب الشباك وأركان السرير والكرسي والطاولة. وينطفئ نجم الأحاجي. تتقاطر الأحاجي عن ظهري وبطني، ومن فتحات أذني وعيني ثم تُخلي تجويف صدري. تتخلى الحوائط عن تماسكها، يسيل الاسمنت ثم يتفكك بدوره إلى ماء ورمل وهبو رمادي دقيق. تصّاعد قطع الأحجية وتسقط على سقف الغرفة، ترسم غابة صغيرة  وتتركني مغلفًا في صوتي، معلقًا في الفضاء الذي كانت تحتويه الغرفة. يقفز العصفور فوق مفردات الغرفة ويحط فوق الجسد الأبيض المغلف في الصوت المكتوم –جسدي. يحرك العصفور رأسه في عصبية، يصدر صوتًا لا يشبه العصافير، ويعض صوتي بمنقاره الدقيق ويغرس فيه أصابعه المخلبة ويشد بكل قوته، بمنقاره ورقبته وعضلات صدره وسيقانه الدقيقة. ينتزع مزعة بحجم منقاره فينفجر كيس الصوت ويتمزق، يسقط الجسد، أذرعه وسيقانه ثقيلة ومرتخية –جسدي. ثم تسّاقط الأعين والآذان [أتركها في صيغة الجمع لسبب غير معلوم، ربما ملائمة صوتها لاندفاع النص الذي أكسره الآن؟] ثم قطع الجلد، ثم الأنف والشفاه وأسنانه الضعيفة وألسنته العديدة. ثم تصّاعد قطع الجسد وتسقط في الغابة المعلقة على سقف الغرفة، تنغرس بين الأشجار أو تلتحم بأطراف أغصانها وتتدلى، تسّاقط الأضلع والأحشاء، يسّاقط الجسد –جسدي، ويملئ الفراغ بيني وبين الغابة. كل المفردات تفككت عدا الصوت –صوتي الأزرق- بقي معلقًا في مكانه، يهتز؛ لا يسقط أو ينهار. يصدر الطائر صوتًا لا يشبه العصافير، فتفيض العصافير عبر كل السماوات الصغيرة، تنزع الأعين والآذان عن أغصان الشجر، تمزق الأحشاء المعلقة بين شجرتين، تُفكك القلب إلى خيوط صغيرة، تحمل الأصابع وأسنان القلم وحروف اللسان؛ تحمل العصافير ما تحمله وتطير تعصف بفضاء غرفتي ثم تندفع داخل قلب الغابة النابتة على سقف الغرفة وتغيب، تنظف العصافير جميع أركان الغرفة وثناياها، تنظف جميع آثار غلالة الصوت التي غلفت جسدي، جففت قطرات الدم الصغيرة المعلقة في فضاء الغرفة وحملتها بعيدًا. تأكدت من محو بصمات أصابعي جيدًا، جمعت ريشاتها التي سقطت. خلعت أوراق الأشجار، ثم وريقاتها، ثم الأغصان والجذوع. كأن الغابة الصغيرة والغرفة الصغيرة والعصافير والسماوات انفجرت إلى الداخل، تداعت على نفسها حتى اختفت. وبقي الصوت –صوتي- معلقًا وحده، ينبض في الفضاء الأبيض. [هل تؤثر القفزة من زمن المضارع إلى الماضي على إيقاع النص، هل تفسده؟] تركض العصافير، وتنثر ما جمعته في خيط طويل ممتدد بين النهار والليل؛ تنثر الألعاب الغرائبية أمام الشمس، فتتوقف عن بكائها، وتسيرُ، طفلةً مسحورةً على الدرب المخادع. تمرُّ الشمس أمام فضائي الأبيض ويسقط نورها دون أن تدري على الصوت المعلّق –صوتي- فينفذ خلاله وينثر ظله الشفاف، يطلي به ذكرى مساحاتِ غرفة لم تكن/ لم تعد موجودة. تعبر الشمس، وينسحب نورها. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة إلا صوتي العاري المكشوف؛ لا شيء حقيقي غير الحروف السابحة حول الصوت محاولة تكوين نفسٍ جديدة سليمة. عين، وياءٌ، نون. همزةٌ ذالٌ نون. قاف لام باء/ قلب. قـ ـلـ ــم. خطوة. صوت. الصوت يهمس. الصوت ينبض. الحرف يخطو. القلم يدور. بيبه (...). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق