الجمعة، 30 أغسطس 2013

حجر البهجة، وفي رواية أخرى: الزلطة الضاحكة!


أولاً: طقوس القراءة: 


أغمض عينيك الآن، ابحث عن الطريق إلى البحر الهادئ بداخلك... حين تصل إلى الشاطئ افتح عينيك، اسمع هذه الموسيقى، أنصت إليها جيداً وتخيلها مختلطة بصوت الموج في الخلفية ثم ابدأ القراءة: 



من أين تبدأ الحكاية؟

تبدأ الحكاية من الصفحة السعيدة التي تبحث عن التفاصيل الصغيرة التي تختبئ قطع البهجة تحتها...جعلتني تلك الرسمة استدعي مجموعة من الذكريات المميزة... تجمعت في مخيلتي قطع تراكبت فوق بعضها البعض... شذرات من الطفولة الأولى، ومشاهد أخرى قريبة كلها محببة إلى نفسي... كأنني أقف الآن أمام ذلك الشاطئ متأملاً ما يدور حولي...



                              




في ديسمبر 2011 قمت برحلة قصيرة إلى مدينة دهب في جنوب سيناء مع مجموعة كبيرة من أصدقائي... في اليوم الثاني من رحلتنا توقفنا قليلاً على شاطئ ضيق محصور بين مياه البحر الأحمر الفيروزية وبين جبل صغير..
كان الشاطئ مليئاً بالحجارة الملونة الصغيرة.. –ولا أستطيع أن أتذكر سبب وجودنا هناك الآن- تسلق بعضنا سفح الجبل الصغير ليستمتع ببانوراما أوسع للمشهد البديع حولنا، تمشى آخرون بمحاذاة الشاطئ الذي يبدو صخرياً، وكأننا نقف على حافة حوض مائي عملاق، يمكنك أن تستشعر العمق الهائل للماء إذا ما أمعنت النظر في زرقته الآسرة...
لا أذكر من منا بدأ بقذف الحجارة على وجه الماء، محاولاً جعلها تقفز... لكنني أذكر جيداً أنه لم يكن بمقدوري مقاومة تلك الرغبة العارمة في لمس تلك الأحجار الملونة الصغيرة... كأنها تنادي بصوت غير مسموع... أخذنا نتنافس معاً في إرسال الحجارة لأطول مسافة ممكنة... بعضنا يجيد ذلك بالفطرة –ربما؟- والبعض الآخر يجرب للمرة الأولى... ساعدت صديقة لي في محاولتها الأولى... وتراجعت للخلف أراقبهم جميعاً... أراقب تلك الفرحة الطاغية تقفز من عيونهم، أكاد ألمسها... وأخذت أستعيد تجاربي السابقة محاولاً قدر المستطاع أن أتذكر المرة الأولىى التي أرسلت فيها حجراً صغيراً ملوناً ليرتد عن سطح الماء بتلك الصورة السحرية... هل كان ذلك على الشاطئ في الكويت أمام الأبراج؟ هل كان أمام شاطئ النيل في مدينتي الصغيرة فارسكور؟ ربما في زيارتي الأولى لراس البر..



هناك ذكرى قديمة صامتة في ذاكرتي لجدتي على شاطئ راس البر تمسك بيدي ويدها الأخرى تقبض على حجر أحمر شبه شفاف ومسطح... تبسط يدها أمام ناظري، فأتحسسه جيداً بأناملي الصغيرة، ثم أنظر إليها فتبتسم ابتسامتها الآسرة المميزة، وويتوهج خداها بحمرة الشمس الغاربة هناك فوق الأفق... تقبض يدها على الحجر، تضبط إيقاع ذراعها وجسدها على مسار ذلك الحجر نحو الماء ثم ترسله بقوة.... الشمس تملأ عيني بالوهج ولا أرى المشهد واضحاً... تجلس جدتي وتجلسني إلى جوارها، الأمواج الصغيرة قوية، تحركني كورقة شجرة ضلت طريقها إلى شاطئ البحر... وجدتي تحكم قبضتها على ذراعي وتخبرني حكاية حورية البحر التي تأسر الأطفال الرائعين مثلي... أقول لها وأنت حورية البر التي تأسرني الآن... –هل قلت لها ذلك فعلاً؟- تأتي موجة قوية تصفعني بالماء على وجهي... اتذكر ذلك واضحاً تماماً في هذه اللحظة... وأتذكر شهقة جدتي وهي ترفعني من الماء بعدما انقلبت على ظهري! واتذكر صرخة الفرحة الطفولية النادرة منها، التي أطلقتها حين رفعت يدها من الماء قابضة على حجر أحمر صغير شبه شفاف... "يبدو أن حورية البحر أرسلت لنا هدية جميلة.." امسكت بيدي وبسطتها ووضعت فيها الحجر ثم طوت أصابعي عليه، ضغطت على يدي بقوة وابتسمت مرة أخرى ابتسامتها الآسرة المميزة... أشارت نحو الأفق وأسندتني لأقف... يمكنني أن أراني من هنا، طفلاً صغيراً دبغت شمس النهار وجهه وظهره وصدره العاريين... –هل كان يرتجف من تيار الهواء المار في تلك الساعة على جسده المبلل بماء البحر؟ تسنده تلك السيدة الضخمة بيدها، تبدو كأنها العالم كله بالنسبة له... يقف، يشد ذراعه الدقيق إلى الخلف، يستشعر الحجر في كفّه كأنه جزء منها... يستكشف صفحة الماء المتوهجة بنور الشمس المسكوب فوقها في تلك اللحظة... تبدو لحظة بعيدة غارقة تحت طبقات عديدة عتيقة من الذكريات.. يغمض عينيه ويبتسم ابتسامة ساذجة بريئة.. يتخيل حجره الصغير وهو يقطع البحار السبعة التي تحكي عنها جدته حتى يصل إلى رأس حورية البحر خطافة العيال- والتي من أجلها تمنعه جدته من اللعب قرب شاطئ النيل في بلدته... يشد ذراعه ويفردها حتى أقصى مداها... ثم يدفع الحجر بيده الصغيرة نحو الأفق...

جذب أحدهم ذراعي وانتشلني من بحر تلك الذكرى... كانت تلك صديقتي التي ارتد حجرها عن سطح الماء مرات ثلاثة! 
ألقيت حجراً أخر، قفز مرة واحدة... تكفي تلك القفزة لصنع جرعة صغيرة من البهجة، ثم شردت ثانية وأخذت أفكر: لماذا نبتهج عندما تتقافز تلك الأحجار الصغيرة التي نلقيها على صفحة الماء؟ ألأننا نبعث الحياة في الحجر، ألأننا نمنحه قوة يصنع بها المستحيل: فبدلاً من الغرق يقفز فوق الماء! أو ربما نبتهج عندما تدرك عقولنا الباطنة أننا مصدر هذه القوة، ربما نبتهج عندما نرى قوتنا تغير الواقع المعتاد، نبتهج عندما نثور ونُغير ولو في صورة حجر صغير يرتد عن سطح الماء ...... هل أشعر أنا بتلك البهجة الغامرة التي أراها في عيون أصدقائي؟ هل تشع ابتسامتي بالفرحة مثل ابتسامة جدتي؟ هل أرتوي بالبهجة التي أحتاج؟ أدركت فجأة أن ما يهم في لحظة البهجة هو الارتواء بها... سأتوقف عن طرح الأسئلة قليلاً، وأسكب روحي لتطفو على صفحة الماء... ثم أركض نحو الطفل الصغير الذي كنته، أحمله بين ذراعاي القويتين وأرميه في الهواء... أعرف أنه يستمتع بتلك الرحلة الجوية الصغيرة أكثر من أي شيء آخر...



الجمعة، 2 أغسطس 2013

لماذا يكتب أبو الحوازيز؟



"لماذا أكتب؟"  تساءلت عن ذلك وأنا أُقدِّم موضوع تعبيري المدرسي الأول –أمضى على ذلك اثنا عشر عاماً حقاً!-  قدمته لأستاذ اللغة العربية –وكان عن الملح!- وأردت لاحقاً أن أفتتح بالاجابة مدونتي الالكترونية في كل مرة بدأت فيها واحدة... وقد بدأت تسعة "مشاريع" مدونات مختلفة خلال السنوات الثلاثة الماضية، لم تخرج أي منها للنور...

فلماذا أكتب؟
أكتبُ أحياناً لأنني أبحث عن صوت يفكر معي، عن قاعدة صلدةٍ أستند إليها حين أفكر… أبحث عن مستمعٍ منتبهٍ يسجلُّ كل ما أعبر عنه… وأبحثُ عن لوحةٍ أعرضُ عليها صورةً مفصلةً لمتاهاتِ أفكاري وهواجسي!

اكتبُ لأنني أجد كثيراً من الشجاعة في فعل الكتابة.. وأكتب لأرضي غروري... وأكتب بحثاً عن المزيد من الإعجاب –ارجع للنقطة السابقة-

اكتبُ لأن الكتابة حرية، فيها خلاص من كل ما يقيد الروح... فاكتبُ لأهزم نوبات الاكتئاب المتتالية: أمحو العتمة من صدري، أجدُ سبباً حتى أستيقظ في الصباح التالي، أو أبحث عن لحظة في يومي التعيس تجعلني غير نادم على استيقاظي في الصباح الماضي....

وأكتب لأنني أعشق مراقبة الكلمات وهي تتشكل أمامي... في طفولتي وقعت في غرام صوت احتكاك سن القلم الرصاص بالأوراق أثناء الكتابة.... اعتدت أن أحمل معي مجموعة من الأقلام الرصاص مختلفة الألوان والدرجات والأنواع طوال الوقت... وحين رجعت إلى مصر أثناء المرحلة الاعدادية لمست أزرار الآلة الكاتبة لأول مرة، عشقت تلك "التكتكات" والصوت الذي تصدره الآلة حين ينتهي السطر...، وانتهت المرحلة الاعدادية أسرع كثيرا مما بدت عليه في بدايتها... وقبل نهايتها أدركت انتهاء عصر الآلات الكاتبة.... قادتني أناملي تلقائياً إلى أزرار لوحة المفاتيح، وتلك قصة ما زالت تجري حتى لحظة مرور عينيك على هذه الكلمات....

أحياناً أخرى أكتب لأنني أقول بالكلمات المكتوبة كل ما يعجز لساني عن النطق به -وهو يعجز عن الكثير!-
أكتب فأقولُ "أحبكِ" أكتبُ وأقول "مشتاق" أكتبُ وأقول "ممنون" أكتبُ وأقول "تائه" وأقول "غاضبٌ وشريرٌ وتائبْ...."

أكتبُ لأن الكتابة تعطي حياتي أبعاداً أخرى: تعبُر بي أزمنة عديدة وتخرقُ حدود الأماكن.... تخلقُ من حوالي عوالم كاملة، ألجأ إليها كلما ضاقت على أوجاع الحياة... اكتبُ لأنني على الورقة لا أتعب؛ تغمرني فيوض لا تنتهي من الحياة الطفلة حين أرمي كل ما يشغل ذهني وراء ظهري وأنغمس في فعل الكتابة حتى الارتواء...

 أكتبُ لأن الكتابة هي الفعل الذي يعوضني عن كل ما أعجز عنه: أطير وأحلم وأحب بكل صدق... أغضب وأقتلُ وأنتقمُ وأتوب وتتقبلُ توبتي... أصرخُ وأبكي أمام كل الناس... أعرف أدق تفاصيل شخصيات حكايات واتسلط عليهم كما أريد... أمارس طفولتي بكل حرية وجنون.. أجترح أفعالاُ خارقة، أو خرقاء –يبدو الأمران سيان على الورقة- وأكتبُ لأمارس كل قواي الشريرة في أمان تام.

أكتبُ لأن الكتابة تسلط بقعة من الضوء حول روحي فتخلق مساحة آمنة من الحياة... أتنفس فيها وأتواصل مع الكائنات الانسانية الأخرى، وأكشف الكائنات "اللاإنسانية" بسهولة تحت ضوئها، فأتجنبها قدر استطاعتي... وتحت ضوئها الرقيق أتشارك قطعاً من روحي أو أكشفها –رغم ما في ذلك من مخاطرة عظيمة- أحياناً أتبادلها مع أصدقائي، أو أمنحها لعابر سبيل... أو أغسلها في فيض النور ثم أستعيدها مرة اخرى..

ببساطةٍ: اكتبُ لأحيا... ولأن من يكتب لا يموت!


 When Dreams Come True Painting by Leonid Afremov