الاثنين، 29 ديسمبر 2014

على وجه الواحة تفيض الكتابة، على وجه القلب تحنو الواحة

الأحد 28 ديسمبر
(1)
1:30 صباحاً
أجلس ممتلئاً بالكتابة التي لا تفيض.

(2)
10:21 مساءً
أجلس بجوار بيت النار، ممتلئاً بكل أسباب الكتابة. السماء صافية، الهواء نقي، وأهل شالي سيوة يبشون في وجوه الأغراب.  وشجرة الليمون بجوار باب غرفتي تداعب أنامل الحلم. أجلس بجوار بيت النار وسط أرواح أليفة، أكتب. أكتبُ: قلبي أخضر، ينبض بالحرف ويفيض، تسيل الكتابة من بين أنامله المرتعشة. أكتبُ: الوحدة تسكن حين يلفحها برد الليل ثم تسقط عن وجهي وتتوه بين بيوت الطين والحجارة. أكتبُ: أطلال البيوت القديمة تأسرني. تبدو امتداداً للأرض والحجارة والشجر. كأحفورة قديمة تجري الحياة تحت قشرتها الرملية الهشة، تنمو على مهلها وتتنفس في ليل شالي الرائق. وتنمو في نفسي أمنية النجاة من المدن الشريرة كلها. تكفيني جنينة وحيدة وسط بحر النخيل وصفاء الزرقة الساحرة. أكتب عن قيود المدينة تكبل روحي ويديّ. عن قلبي المتخبط في الحب أكتبُ. وعن علاقتي القلقة بالكتابة. عن دخان الشيشة الوديع قرب بيت النار، وحشيشة الليمون في فنجان الشاي الصغير اللاذع. يبتسم عم أحمد العطار بينما يحكي. يقول تغيرت طباع أهل البلد كثيراً في السنين الأخيرة. تدمع عيناه ويفيض منهما حزنُ مرير. يضحك عمَ عثمان حين أطلب منه أن يعلمني أغنية سيوية. يقول لن تفهم مما أقول. ثم يغني ما يطيب له، أسأله كيف أكتبه فيقول لا تكتب. أسأله عن المعنى فيشرد لحظة ويحكي: يعني هاطير لعند الجبل وأمسك الغزال الأبيض.  بتحب يا عم عثمان؟ فيشرد مرة أخرى ويقول "طبعاً."

(3)
11:40 مساءً
أجلس بجوار بيت النار، وحيداً، وجه الواحة ساكنٌ تحت طبقة بردٍ متماسكة وصافية كهدوء ليلها. يتسرب البرد عبر نسيج جوربي، يزحف ببطء نحو عظامي ويلمس وجهي. تتوهج آخر الجمرات في وهنِ المسافر آخر ليلة طويلة، فتبدو المسافة بيني وبين بيت النار أبعد. أعيد قراءة المقطع السابق عدة مرات، أعيد النظر فيما أفعل به؟ أتذكر حديثي العابر إلى صديقتي «تفتكري القعدة في سيوة هاتفك عقدة الكتابة اللي ملازماني؟» وأبتسم ابتسامة حانية لأنني كتبت. أعيد النظر فيما كتبت وفيما لم أكتب. لم أكتب عن الفتاة التي غفت على كتفي للحظات عابرة، عن احتياجي للخروج في موعدٍ بسيط، عن اشتياقي لعروس شِعرٍ تسكنُ خلف البحار البعيدة. بساطة ميكانيكة الأقفال الخشبية على مجموعة الشبابيك تغريني بالبحث عن شيء مجهولٍ بداخلي. رائحة عروق الخشب الحمراء العتيقة الممتدة عبر سقف غرفتي تملؤني بشوقٍ لصوت أبحدية ناعمة تنساب بخفة وسط السحابات في فضاء صدري الحالم. وأكتب لصديقتي خلف البحار البعيدة: «أنا الجميزة الوحيدة وسط وادٍ أصفر/شجرة تحلم بريش كثيف وأجنحة فسيحة/ تحلم بالطيران نحو واديكِ الظليل لتصبح خضرتها شمساً رقيقة/ لتجفف الحزن الساكن في جداولك الصامتة/ وتذيب الثلوج على قمة قلبك/ أسبح هذا الصباح وسط بحرٍ نخيل/ ينقلب عالمي فأسقط من الموج الأخضر نحو الموج الأزرق الرائق، ولا أختنق/ يخفق قلبي على إيقاع حزنك وغيابك/ في ليلة هادئة وديعة كليلتي هذه أريد أشياء بسيطة؛/ أريد أن أمسح على رأسك، أن أقبَل يديكِ، وأن أنجز ما التزمت به من ترجمة قبل مقدمة الصباح./ حبيبتي، لا تنسي أن تطعمي الطيور العابرة،/ لعل أحدها يحمل إليك قلمي وأصابعي ورائحة قلبي/ وكرةً من خيوط كتابتي عنكِ./ لا تفزعي حين تصلك رسائلي، ورحمةٍ بي كفي عن الاختفاء خلف بحار بلادك. أمدّ يدي إليك عبر نافذة الشِعر وأقتبس* منه ما يحكي باباً من حكايتي:  

«أريد أن أختبئ في زهرة
خوفًا من القاتل
أريد أن يموت القاتل
حينما يرى الأزهار
..
أريد أن أفتح نافذة
في كل جدار
أريد أن أضع جدارًا
في وجه من يغلقون النوافذ
..
أريد أن تكون الكلمة
شجرة أو رغيفًا أو قبلة
أريد لمن لا يحب الشجر
و الرغيف
و القبلة
أن يمتنع عن الكلام
»
                                    ابتسمي عزيزتي.



---

*من قصيدة غير معنونة لرياض صالح الحسين