الثلاثاء، 20 أكتوبر 2015

متى أخترق قشرة الصمت وأمضي؟




لكسر روتين الصمت الذي أفرضه على نفسي أكتب. أكتب أنني محاصرٌ في جسدي ووحدتي، وأن تاريخ اليوم يزعجني ويعلمني أنني سأكمل عامي الرابع والعشرين بعد أسابيع أربعة، وأنني لست مستعدًا لكل هذا الركض والاستنفاذ. لكسر روتين الصمت أتكور في سريري بعد التاسعة صباحًا، تائهًا بين النوم واليقظة، أتكور في سريري وأكتب بين سطرين في خيالي كيف أنني لا أكتب منذ أيام طويلة، لا أتكلم ولا أقرأ، وأنني أبغض هذه الحالة وأبغض غضبي على نفسي. أتكور في سريري وأقرر أن أغيب في عالم الأحلام ساعة، أعلم أنني لم أتناول دواء الاكتئاب منذ أيام ولذا أنا أقرب للأحلام المتماسكة؛ في الحلم الأول تسقط صديقتي في بيتنا، ترتدي تنورة مزينة بالزهور وتدور مع أصدقائنا وتحكي عن رجل مجهولٍ أحبته. في الحلم الثاني تقرأ السنافر مقاطع متفرقة من كتاب مجهول لتشارلز ديكنز، ثم يسبحون واحدًا بعد الآخر على حوائط برتقالية يرسمون عليها أمواجًا زرقاء حليبية وقططًا مسحورة وزهورًا ضخمة، ويغني كل منهم ما حفظه من كتابة ديكنز. أسقط في غرفة حمام مرصوفة بسيراميك لبنيٍّ وأنهمك في الكتابة على جسدي العاري، أكتب بحبر أسود كثيف أبياتًا من مترجمةً من شعر جون دن، وأكتب كل كلمة تمر بخاطري. وأبكي، ويسيل الحبر مثل النزف على أصابعي وفخذاي. أستيقظ، أجلس القرفصاء ساعة، مجرة هائلة من الأفكار السوداء والبيضاء تتلاطم في داخلي. أتوضأ ثلاث مرات ولا أصلي. يتوقف الزمن في غرفتي وتنقطع الأصوات عني. ثم أصلي العصر أخيرًا وأدخل في حذائي الرياضي وأقطع الطريق واقفًا من البيت إلى وسط البلد. يبدو المترو خاليًا وصامتًا على غير عادته، أصعد درجات السلم، أجلس على كرسي المكتب تحت الضوء الأبيض الساطع، تتلاطم أذرع المجرة في داخلي مرة أخرى وأقرر أن أترك عملي بعد أسابيع من التردد والحيرة... في حقيقة الأمر لا أريد الغرق في غياهب الكومفورت زون مرة أخرى، لكنني، في هذه اللحظة لا أملك القدرة على المعافرة خارجها. سأترك العمل الذي يتحداني وأبحث عن فرصة على حدود الكومفورت زون اللعينة، أتعلق بقارب صغير وأدفع نفسي خطوة متناهية الصغر خارج حدودها. أجلس تحت الأضواء البيضاء الساطعة، أقرر أن أتخلى عمّا يستهلك ما تبقى من طاقتي، ويحزنني التخلي رغم فائدته، وأكتب أكثر.

ثم ينقطع سيل الكتابة...

عكس كل ما أريده لنفسي ينقطع سيل الكتابة. كنت اجلس أمام أستاذتي منذ شهر وأحكي لها أنني الآن أعافر للخروج من حيث تحدث لي الكتابة إلى حيث آتي أنا بفعل الكتابة عن عمدٍ ومثابرة. الآن ألضمُ الخيط المقطوع وأخطو خطوة صغيرة نحو ما أريده لنفسي. أسأل نفسي؛ لماذا أخاف من الأشياء الجميلة التي أريدها، لماذا تخيفني وأهرب منها إلى لامنطقية الكآبة والعجز. الآن أكتب. وأبكي. وأؤمن بحكايات الجنيات أكثر. وأبكي وينزف الحبر من رحمي المتخيلة، التي تطاردني في الأحلام. ولست أدري لم اخترت أن تكون الرحم مؤنثة. أبكي وأنزف حبرًا وأترك عملي وأطارد ستائر الحيرة وغموض ما قد يأتي. وأعلم انني محاصرٌ في الوحدة وفي الكتابة التي لا تولد. عكس كل ما أريده لنفسي ينقطع سيل الكتابة، وتنقطع المثابرة فأترك عملي الذي يتحداني، وأهرب. آتي الفعل الأكثر بغضًا إلى قلبي وروحي. ربما أزعم عكس الهرب خارج هذه السطور، لكن هنا، وسط السطور التي أغزلها من ثوب روحي تحت أضواء المكتب الساطعة لا يمكنن أن أزعم غير الحقيقة. أنا أهرب. ويبدو الهرب مثل رفاهية أسرقها وسط وقت عصيب أعافر فيه لأخطو كل خطوة. ماذا بعدُ؟ الحقيقة التي أهرب منها هي أنني أهرب من المسؤولية. أيقظت كلمات يسرا كل صدى النداءات البعيدة التي أهرب منها هي أيضًا. كنت أحكي لسلاف عن أعتقادي أنني لا أستحق الخير الذي مُنحتُه، فتقول هي فلتعمل لأجله حتى تستحقه. وتقول لي إسراء «هو إحنا مش هانبطل نجري من الحاجات اللي بنحبها وبتختارنا عشان إحنا أكشوالي مهابيل وعبابيط ومقتنعين إننا منستحقش الحاجات دي؟»

نعم، هربت من فرصة السفر إلى أمريكا حين اختارتني الفرصة، ثم هربت من فرصة إتمام دراستي في سنة حين اختارتني الفرصة الثانية لثاني مرة، ما كنت لأصدق ولن أصدق أن تأتيني فرصة ثانية مرتين، هذه هي خطيئتي؛ الكفر بأن المعجزات قد تحدث لي أنا أيضًا، والهروب منها. خطيئتي العظيمة هي الهرب. الآن أغرق في وحل العجز والحيرة، وأرى عامي الرابع والعشرين يتم وأنا عالق منذ عيد ميلادي الماضي في مكاني لا أتقدم. هل أنفجر مثل البركان؟ هل أنفجر ثم أفيض مثل الحمم السائلة؟ أم أنني في الحقيقة أذوي وأذوب في وحل العجز والحيرة؟


ثم تخيفني كتابتي ويخيفني الاعتراف بهروبي وتقصيري. يخيفني كشف كل هذه الهشاشة والحيرة. أتخيل نفسي فرخًا محبوسًا في بيضة صلبة، أنقر قلبها بحروف صغيرة صلدة، أطرق رأسي حتى تنزف، أهتز، أصرخ، أبكي في عجز. أتخيل نفسي مطرًا محبوسًا في غيمة، تحملني الغيمة من وطن إلى آخر على غير إرادةٍ مني. تخيفني كتابتي هذه، ويخيفني الاختيار، وانتهاء الدرب، وجفاف الكتابة...