الخميس، 25 يونيو 2015

ملح الكتابة ونورها





اكتشفتني الوحدةُ جالسًا منفردًا أتأمل شجرة البومباكس العظيمة وسط حرم جامعة المنصورة فوُلِدتُ مرة أخرى. تلك الشجرة التي نبتت من حلم ما ثم جلست مرتاحة توزع أثواباً من روحها على العابرين في مجالها. بحثتُ عن أستاذ يعلمني الرسم في الصباح التالي، رسمت عشرات الأشجار والمروج في مرسمه الصغير ولم يكن من بين أيٍ منها شجرة بومباكس واحدة. رسمت عشرات الأشجار والمروج ثم انهار السقف عليها وانهارت الجدران والطوابق الستة العتيقة فوق المرسم والأشجار ومحاولاتي جميعًا، ولم ألمس ريشة واحدة ولا أنبوب لونٍ منذ ذلك اليوم، لكنني كتبت. كتبت عن العالم الأخضر الرقيق الشفيف الذي يوازي عالمي، عن أسماء الأشجار التي لا أعرفها والزهور الصغيرة التي تتفتح في شق جدار غرفتي حيث تنفذ الشمس. مدينة الأمل للطلبة؛ حيث كنت أسكن، تبدو كمزحة ثقيلة، لا فسحة للأمل فيها حتى اكتشفت نفسي في الكتابة.

 لا راحة في العودة إلى مدينة الأمل الغائب، ولذا تتوه خطواتي وتدور في المسافة بين قاعة الدرس ومدينة الطلبة في نهاية الأيام. تعثرت في جسد طائر أخضر ملقى على الأرض ذات يوم في أول الربيع. كان الطائر زهرة سقطت من عشها على جناح الشجرة الهائلة الممتدة في الفضاء. تهز رياح الخماسين فروعها فتسقط الأزهار الحمراء الضخمة، يذوي لونها الأحمر سريعاً وتتحول لطيورٍ خضراء ميتة. رفعت رأسي نحو الشجرة فملأتْ قلبي برهبة غامضة. لم تكن الطيور الخضراء الميتة ميتة، كانت تهمس برغبتها السرية في الامتداد لحيوات أخرى، وكانت شجرتها تتنفس ببطء، ينمو حولها سياج من أجساد الطيور شبه الساكنة، يزحف السياج نحوي ويأسرني أنا أيضًا ببطء. ملاتني الشجرة بسطوتها وهمسها. ابتلعتني الشجرة ولمست قلبي. رأيت الموت يلمس قلوب زهورها الطيور، وتذكرت صوته. لفظتني الشجرة على جانب الطريق فركضت إلى غرفتي وفتحت دفتري الأخضر. همست لي الشجرة أن أكتب، فاستندت عليها وملت نحو الكتابة.

 خفقت الطيور الميتة أجنحتها فسقط جدي من عالم الحزن إلى عالم الدفتر. أراح رأسه بين سطرين وابتسم. ارتشفتُ من الكتابة ما شاءتْ لي حتى تصالحت مع فقدانه. كتابة جدي كانت امتداد حياته بين يدي؛ كتبته ببساطة كما كان ورأيت الموت لأول مرة وديعاً آسرًا ومسلوب الإرادة. خفقت الطيور الخضراء أجنحتها فرأيت نهراً يفيض ويغمر غرفتي، قلب التيار أدراج مكتبي وبعثر محتوياتها؛ رأيت احلاماً صغيرة مكتوبة على أقاصيص أوراق طفولتي، ورأيت دربي لا يمر بجامعة المنصورة حيث كنت، ورأيت أبي يبكي حين وجد جدي مرتاحاً بين سطوري؛ ورأيت نفسي تائهًا مندفعًا... جف الماء وبقيت أقاصيص الأحلام الصغيرة سابحة في فضائي، كنت أميل نحو الكتابة وأسقط معها في قلب الحياة ولم أكن أرى ما أراه الآن.

متى لمست الكتابة أول مرة؟ كنت أستند على زجاج الشباك في شقتنا الصغيرة وكنت صغيرًا وكان صيف المدينة حارًا. ركضت نحو أمي أحكي لها كيف طلب مني مدرس الفصل أن أكتب عن الملح، وكم تبدو الكتابة محيرة، ماذا في الملح، أكثر من كونه ملحًا، لاكتب عنه؟ فردت أمي أجنحتها البيضاء الفسيحة وضمتني إليها، حكت لي أن غاندي علّم الهنود كيف يستخرجون الملح لأنفسهم من البحر، قالت ما يشبه أن الملح قوة، وقالت أن الملح أبيض مثل الثلج، ثم قالت أن الملح أيضاً شفاف كألماسات صغيرة، وضعت في يدي الصغيرة حفنة ملح وقالت أن الملح مسحور، وسألتني كيف ذهب الملح إلى البحر؟ قدمت موضوع التعبير لأستاذي في الاسبوع التالي وكتبت ما شاءت لي الكتابة أن أكتب عن بلورات الملح خفية السحر طيبة الأثر. ثم كبرت ووجدت لسان العرب يقول أن الملح هو ما يطيب الطعام به، لكني لم أجد من يشرح لي كيف تطيب بالكتابة أيامي، أو كيف تلتهب جراحي بملحها: كبرت ولم أجد ما يعرّف الكتابة أو يحكي كيف تغرسني في قلب الألم ثم تجردني من كل الشعور.

بين حياتين وجدت نفسي حين سبحت خارج غرفة الحلم، قادني فيض النهر إلى مدينة شريرة ثم لفظني على  شاطئها اللامع. كانت الأرض زلقة وأحلامي الصغيرة زغبها مبلول وقلوبها مفزوعة، لا يدري أيٌ منا –أنا أو الأحلام أو البيت على ظهري-  إلى أين يقودنا الدرب الجديد. كانت الخطوة حلماً وكان الحرف، ومعاً تعلمنا المشي على أرض المدينة الشريرة وتعلمنا الكتابة.


«طفلي الصغير، من رحمك المسحور تولد أول الحروف وآخر الساحرات،
عليك الآن أن تقف، أن تشد عودك كرجل شجاع يسعى لإتمام رحلته،
 
وأنت تعلم أن إتمام هذه الرحلة يضعك على عتبة رحلة أكبر ومغامرة أكثر إثارة، وغموض لذيذ وكتابة لا تعرف طعمها حتى الآن... وأنت تعرف أنك تحب الكتابة حتى التخمة، لا شيء يرضيك مثلها... ربما قُبلة مشتهاة وما بعدها؛ ربما حضنٌ طال انتظاره.
قِف الآن وأنت تعرف أن الكتابة ستقودك على الدرب، أنت تعلم أن الكتابة هي سيفك ودرعك وهي مفتاحك وحذاؤك المريح...
هي الدرب والفرس وقنديل الزيت... هي أوراق الشجر، وهي النسيم العبِقُ برائحة المحبة... وهي شربة الماء الهنية بعد رحلة شاقة... أنت تعرف أن مهمتك الكتابة، فأكتب، ولا تنظر خلفك.. لا ترهق نظرك فيما يدور خلف الأفق.. نظرة في محل خطوتك تلزم الآن، ونظرة تمهد للخطوة التي تليها،
ونفَسٌ طويلٌ،
ثم نفَسٌ أطول»

الخميس، 11 يونيو 2015

صندوق بريد يطفو على صدر ليلة



اليوم: العاشر.
المكان: أمام بحر.

ماذا تقول الرحلة؟
تقولُ أبحر. تقولُ أبحر. تقولُ أبحر.

روحُ الرحلة تتلبسني، تهمس في صدري،
تملك أمري كله،
تدفعني كي أُبحِر في عاصِفتِك؛

أصنع طوفاً من كلماتي/
من أعوادِ الياسمينِ وأغصانِ الليمون،
وزهور المشمشِ وخيوطِ الشمسْ/
أصنع مرساةً من حجرٍ فيروزّيٍ/
ساريةً من عاجْ
وشراعاً
من ثوبك الأزرق التائه في عينيّ منذ عرفتك/
ثم أبحر في عمق لياليَّ بلا دفة...

(...)

اليوم: تاهت الأيامُ بعد أولِ ألف.

من أنتِ؟

هذي الليلةُ،
أمواجكِ تغمرُ طوفي...
تحيي طيفي/
أتذكَّرُ
في مرآتي:
كنتِ أرق من صباح ربيعيٍّ
وأبهى من سمائه،
ساحرةً كفجر ليلته الباردة نسبياً
/وكنتُ أسهرْ/
كنتِ دافئةً في عينيِّ
مثل شمس الصباح الربيعي المستيقظة بعد كسل الشتاء/
أتذكرُّ
في عينيَّ كنت بريئة كروح الطفولة
وغامضة كقلب هذا المحيط الفسيح/
أمام عينيِّ تبتعدين في إصرار أمنيةٍ تؤمن أنها
ليست لي./
عزيزةً عليّ/
وقريبةً
كالألم المحيّر في أوصالي.
كنتُ أسلّم أمري للموج
وأشهد أني أحبك.
وكان الموجُ يدفعني
نحو بحورٍ جديدة...
/ما زلتُ أسهرْ/

(...)

اليوم: أربع سنواتٍ؟ خمسة؟
اختلط الأمرُ علي بعد البحر الأول.

أصنع من كلماتي عصافيرَ ورقية، وأطيرها.
كتابات آخر الليل خطيرة على متجرعها -تقول النشرة الطبية-
يُحفظ بعيداً عن متناول يد التائهين -تهمس النشرة الطبية-
كتابات آخر الليل تتوه في العتمة، وتغيب، وتكسر قلب الشاعر.
وكتابات آخر ليلي تتكثف في سقف العالم منذ بداية الرحلة؛ 
سحاباتٍ صغيرة معتمة/
تأكل السحابات أوراق النجوم
تقتنص العصافير الهشة
وفي الصباح تمطر السماء أجنحة معتمة وهياكل ورقية..
فأعيد تدوير كتاباتي القديمة/
امنحهُّن حياة جديدة -أقول لنفسي- وأنفخ في أقصوصة الورق/
أقول لنفسي أشياء عديدة،
هل يمكن للكتابة أن تشبه الطبخ -في صدقٍ- أو أنها لن تفعل؟
ربما أغزل الكتابة وأحيك للعصافير منها ثياباً 
مضادة للعتمة.

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - III





[.....] I am amused with the funny fresh feeling in my wings; I am amused to the tempting sensation of getting lost where every direction seems like a forward to me. 

Where to go now? I see my reflections clearer than ever, I know what I want but I am floating like a steam boat with no coal. It never gets easier, that is the new truth and the only principle about life as I see it now; it never gets easier but I become better at coping with it. I stay a little bit shorter in bed every new morning, I eat cleaner food, I channel my despair and frustration into running and meditation… the one thing I really need is coming too slow to be enough, I write. I write, but it is not enough for those waiting my writings; I wonder what is holding me back if it wasn’t fear? What is crippling me and my soul that hard? The words I have not written condensed together and made a sea of songs. I rest in the waters of the sea inside of me when I am tired of flying. I take a never ending deep breath and I feel how my body greets the air flowing inside of me. The exhaled air carries many songs from the sea inside of me and my entire body resonates with it like a vintage wooden music box. I am fully connected to myself and the world. I see my sadness, I touch my fears, I push my body to the next trustless step, I set my sails into a sea of faith.

At the end of the day I lay down on a sheet of fresh green grass that is hidden between the realms of my existence, I gently stretch my muscles and then release them, I inhale a never ending deep breath, I exhale a never ending lullaby; the songs I have not sung transcend throughout the layers of my disappointment and depression… they transcend outside all the realms I can see, outside the whole universe…. The songs I have not sung whisper quietly to me and lift me like a cloud of green stardust… I am transcending, I am limitless, I am wide awake; I am a word written on the milky ways with bones and flesh and a humane soul.


"I move slow and steady
but I feel like a waterfall..."
 [Relief]

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - II



April, I am wide awake; I cannot tell how many days have passed since my voice came back to me. I am wide awake, I am lost in the white of my bed sheets and I take a never ending deep breath, I close my eyes and I quietly pluck one feather of depression at a time. The deep roots of my depression scream in pain, they clench too hard on my flesh. My pain becomes too big to be felt anymore. I pluck harder and harder, every feather takes away a chunk of beating flesh and neurons. I pluck them harder. The white of my bed sheets is lost into the bleeding disfigured feathers; the spooky nightmarish feathers that are not mine anymore, and the flesh that’s tied to my soul with letters and ink and the dust of burned dreams. I am wide awake. Walking is like flying, I am so empty, I am filled with little deep holes, dark and bleeding; I put on some light perfume, a nice t-shirt and a pair grey of sneakers; my hollowed body has become perfect, so perfect for drifting and flying; a messy cloud of bone dust and dried flesh is floating above a sea of silence and mountains of disappointment. 

May, where to go now? The words I have not written squeezes through my hollowed chest and fill the holes, they sprout little green and blue feathers. Where to go now? The words I have not written are heavy. They pull me downwards and slice through the cloud, the sound waves carry me, and I kindly stretch my featherfull wings, I take a never ending deep breath and I clap them together… I am amused with the funny fresh feeling in my wings; I am amused to the tempting sensation of getting lost where every direction seems like a forward to me.

A Waterfall Singing Into a Sea of Silence - I



[Recession]

February – March 2015, I am falling apart. What I feel is indescribably ambiguous. I can’t bear the weight of the words I have not written and the steps I have not taken; their pressure makes tiny painful cracks through every bone in my trembling body. I cannot hold the heart beats inside my chest; the loud inconsistent beating shutters the cracked bones and leaves my chest wide open; I collapse into dreams of death and non-existence. I am falling apart. The indescribably ambiguous feeling fills the cracks in my bones and melts the shattered pieces together. I am wide awake. The poems I have not written and the walks I have not taken are hunting me. My melted bones are stiff and unresponsive. My soul is scared and anxious. I take a never ending deep breath and I scan how the wooden floor feels beneath my passively relaxed body. I’d rather feel it beneath my feet, but I have been struggling to stand up for too many mornings to remember. I collapse. I fall into a sea of silence. My footsteps are scattered everywhere, I cannot remember where to go; I cannot see the light, I cannot trust my next step, I walk in spirals, my reflections collide and I collapse. I am wide awake. I take a never ending deep breath and I scan how the keyboard feels beneath my fingertips. My hysteric heartbeats echo in the furthest corners in the space I occupy, the echoes are hollow and heavy, their teeth bite my fingertips and the writing slowly bleeds out. I do write. I do have a voice; it rattles but it is audible; it is thin but it is visible. It seems ghostly, but surely it does exist; and it is dear to me.