اكتشفتني الوحدةُ جالسًا منفردًا أتأمل شجرة البومباكس
العظيمة وسط حرم جامعة المنصورة فوُلِدتُ مرة أخرى. تلك الشجرة التي نبتت من حلم
ما ثم جلست مرتاحة توزع أثواباً من روحها على العابرين في مجالها. بحثتُ عن أستاذ
يعلمني الرسم في الصباح التالي، رسمت عشرات الأشجار والمروج في مرسمه الصغير ولم
يكن من بين أيٍ منها شجرة بومباكس واحدة. رسمت عشرات الأشجار والمروج ثم انهار
السقف عليها وانهارت الجدران والطوابق الستة العتيقة فوق المرسم والأشجار
ومحاولاتي جميعًا، ولم ألمس ريشة واحدة ولا أنبوب لونٍ منذ ذلك اليوم، لكنني كتبت.
كتبت عن العالم الأخضر الرقيق الشفيف الذي يوازي عالمي، عن أسماء الأشجار التي لا
أعرفها والزهور الصغيرة التي تتفتح في شق جدار غرفتي حيث تنفذ الشمس. مدينة الأمل
للطلبة؛ حيث كنت أسكن، تبدو كمزحة ثقيلة، لا فسحة للأمل فيها حتى اكتشفت نفسي في
الكتابة.
لا راحة في العودة إلى مدينة الأمل الغائب، ولذا تتوه
خطواتي وتدور في المسافة بين قاعة الدرس ومدينة الطلبة في نهاية الأيام. تعثرت في
جسد طائر أخضر ملقى على الأرض ذات يوم في أول الربيع. كان الطائر زهرة سقطت من
عشها على جناح الشجرة الهائلة الممتدة في الفضاء. تهز رياح الخماسين فروعها فتسقط
الأزهار الحمراء الضخمة، يذوي لونها الأحمر سريعاً وتتحول لطيورٍ خضراء ميتة. رفعت
رأسي نحو الشجرة فملأتْ قلبي برهبة غامضة. لم تكن الطيور الخضراء الميتة ميتة،
كانت تهمس برغبتها السرية في الامتداد لحيوات أخرى، وكانت شجرتها تتنفس ببطء، ينمو
حولها سياج من أجساد الطيور شبه الساكنة، يزحف السياج نحوي ويأسرني أنا أيضًا
ببطء. ملاتني الشجرة بسطوتها وهمسها. ابتلعتني الشجرة ولمست قلبي. رأيت الموت يلمس
قلوب زهورها الطيور، وتذكرت صوته. لفظتني الشجرة على جانب الطريق فركضت إلى غرفتي
وفتحت دفتري الأخضر. همست لي الشجرة أن أكتب، فاستندت عليها وملت نحو الكتابة.
خفقت الطيور الميتة أجنحتها فسقط جدي من عالم الحزن
إلى عالم الدفتر. أراح رأسه بين سطرين وابتسم. ارتشفتُ من الكتابة ما شاءتْ لي حتى
تصالحت مع فقدانه. كتابة جدي كانت امتداد حياته بين يدي؛ كتبته ببساطة كما كان
ورأيت الموت لأول مرة وديعاً آسرًا ومسلوب الإرادة. خفقت الطيور الخضراء أجنحتها
فرأيت نهراً يفيض ويغمر غرفتي، قلب التيار أدراج مكتبي وبعثر محتوياتها؛ رأيت
احلاماً صغيرة مكتوبة على أقاصيص أوراق طفولتي، ورأيت دربي لا يمر بجامعة المنصورة
حيث كنت، ورأيت أبي يبكي حين وجد جدي مرتاحاً بين سطوري؛ ورأيت نفسي تائهًا مندفعًا...
جف الماء وبقيت أقاصيص الأحلام الصغيرة سابحة في فضائي، كنت أميل نحو الكتابة
وأسقط معها في قلب الحياة ولم أكن أرى ما أراه الآن.
متى لمست الكتابة أول مرة؟ كنت أستند على زجاج الشباك في
شقتنا الصغيرة وكنت صغيرًا وكان صيف المدينة حارًا. ركضت نحو أمي أحكي لها كيف طلب
مني مدرس الفصل أن أكتب عن الملح، وكم تبدو الكتابة محيرة، ماذا في الملح، أكثر من
كونه ملحًا، لاكتب عنه؟ فردت أمي أجنحتها البيضاء الفسيحة وضمتني إليها، حكت لي أن
غاندي علّم الهنود كيف يستخرجون الملح لأنفسهم من البحر، قالت ما يشبه أن الملح
قوة، وقالت أن الملح أبيض مثل الثلج، ثم قالت أن الملح أيضاً شفاف كألماسات صغيرة،
وضعت في يدي الصغيرة حفنة ملح وقالت أن الملح مسحور، وسألتني كيف ذهب الملح إلى
البحر؟ قدمت موضوع التعبير لأستاذي في الاسبوع التالي وكتبت ما شاءت لي الكتابة أن
أكتب عن بلورات الملح خفية السحر طيبة الأثر. ثم كبرت ووجدت لسان العرب يقول أن
الملح هو ما يطيب الطعام به، لكني لم أجد من يشرح لي كيف تطيب بالكتابة أيامي، أو
كيف تلتهب جراحي بملحها: كبرت ولم أجد ما يعرّف الكتابة أو يحكي كيف تغرسني في قلب
الألم ثم تجردني من كل الشعور.
بين حياتين وجدت نفسي حين سبحت خارج غرفة الحلم، قادني فيض
النهر إلى مدينة شريرة ثم لفظني على شاطئها اللامع. كانت الأرض زلقة وأحلامي
الصغيرة زغبها مبلول وقلوبها مفزوعة، لا يدري أيٌ منا –أنا أو الأحلام أو البيت
على ظهري- إلى أين يقودنا الدرب الجديد. كانت الخطوة حلماً وكان الحرف،
ومعاً تعلمنا المشي على أرض المدينة الشريرة وتعلمنا الكتابة.
«طفلي
الصغير، من رحمك المسحور تولد أول الحروف وآخر الساحرات،
عليك الآن أن تقف، أن تشد عودك كرجل شجاع
يسعى لإتمام رحلته،
وأنت تعلم أن إتمام هذه الرحلة يضعك على عتبة رحلة أكبر ومغامرة أكثر إثارة، وغموض لذيذ وكتابة لا تعرف طعمها حتى الآن... وأنت تعرف أنك تحب الكتابة حتى التخمة، لا شيء يرضيك مثلها... ربما قُبلة مشتهاة وما بعدها؛ ربما حضنٌ طال انتظاره.
وأنت تعلم أن إتمام هذه الرحلة يضعك على عتبة رحلة أكبر ومغامرة أكثر إثارة، وغموض لذيذ وكتابة لا تعرف طعمها حتى الآن... وأنت تعرف أنك تحب الكتابة حتى التخمة، لا شيء يرضيك مثلها... ربما قُبلة مشتهاة وما بعدها؛ ربما حضنٌ طال انتظاره.
قِف الآن وأنت تعرف أن الكتابة ستقودك على
الدرب، أنت تعلم أن الكتابة هي سيفك ودرعك وهي مفتاحك وحذاؤك المريح...
هي الدرب والفرس وقنديل الزيت... هي أوراق
الشجر، وهي النسيم العبِقُ برائحة المحبة... وهي شربة الماء الهنية بعد رحلة
شاقة... أنت تعرف أن مهمتك الكتابة، فأكتب، ولا تنظر خلفك.. لا ترهق نظرك فيما
يدور خلف الأفق.. نظرة في محل خطوتك تلزم الآن، ونظرة تمهد للخطوة التي تليها،
ونفَسٌ طويلٌ،
ثم نفَسٌ أطول»