الخميس، 21 مارس 2019

أرحب سماء في عيونهما








»علمتني أمي كيف أكتب. وضعت رشة ملح في يدي وقالت ’’حفنة من الجواهر البيضاء الصغيرة، أنصتْ إليها ستحكي لك عن بحر وبحيرات وشعوب وجفاف وشمس‘‘. وعلمني أبي كيف أحكي. حطّم القيد حول معصميّ وجلس يراقبني في البحر كيف أخطو بين الملح والرمل. دفعني من ظهري وقال فلتكن الحكاية صادقة. علمني أبي التساؤل. علمتني أمي اللين. علمني أبي الصبر. علمتني أمي السكن. نسج أبي وأمي بيتًا دافئًا ووضعاه خلسة في حقيبة سفري. تغني أمي لحنًا خفيفًا في الصباح الباكر وتصدر تروس دراجة أبي الخفيفة أزيزًا أليفًا بينما ننحدر سويًا عبر طرقات مدينتنا الصغيرة في منتصف الليالي الصيفية عائدين إلى البيت. أبي وأمي غرسا الحب في صدري ألف مرة. علّماني كيف أحب نفسي أولًا. وعلّماني كيف أحب الآخرين أولًا. أمي وأبي شيّدا فنارة وديعة راسخة وسط الضباب. نقشا إسمي على مفاتيح المدينة. علّماني كيف أحب اسمي. أمي وأبي علّماني الرحمة. علّماني كيف أرعى هذا القلب الصغير والكلمات بالصبر واللين والمحبة. أبي وأمي يقولان كن كما تريد. كن طيبًا. كن سعيدًا. كن في رضا. يوقدان الشموع. يرممان قلبي كلما ضربه الحزن. يشيرانِ إلى النجوم البعيدة. يشيران إلى طريق البيت. يرتدي البيت صورة أمي ويرتدي صورة أبي ويقول لا تنسني. اكتبني تجدِ الطريق. أمي الطريق. وأبي الطريق. أبي وأمي الطريق. وهما الطريقة. وهما العش. والحَب. والحُب. والفرص الثانية. وهما الطفولة. ألف نافذة تطل على الكون. وألف وسادة مطرزة بالأقحوان والفل. ألف قُبلة على الجبين. وألف عينٍ باسمة. ودامعة. وألف ابتسامة حانية تسع الكون وتبّطن كل طرقاته بالخضرة اللامعة. هما الأزرق الدافئ. وهما السكين والقلم ولوحة الرسم ومُرُوج الأحلام. هما الذاكرة والمرآة والقنديل وجرعة الدواء. يقولان اكتب. كن بخير. انسج الحكايات. كن أمينًا. اخطُ بلا تردد. ارتد الدرع كاملة. افتح صدرك للنور. أبي وأمي يغرسان البِر في صدري ألف مرة. ذاكرتي ترسم غيومًا لبنية على جدران الدرج الصاعد أمام بابنا. نصعد درجاته سويًا نحو شجرتنا التي تسكن سماءً أخرى. نحملُ الحَب لعصافير. يناولنا أبي الفاكهة والحكايات –أنا واخوتي- ويقول تعلموا البِر. يهدر أبي كالرعد. تبكي أمي في هدوء الضباب. ثم يسكنان بخفة كصباح مشرق في آخر الشتاء. أكتبُ: هدى. أكتبُ: عادل. أكثر الأسماء ألفة. أكبر الأرواح رحابة. هما الريح تحملني عكس اتجاه النهر. هدهدة تجذب النوم الخائف في ليالي الأرق. وهما العيد والفراشة المضيئة في ليل الحديقة. والعبارة الغامضة التي تهمس في الخيال بكل احتمالات الكتابة. تعلمني أمي كيف أحب أبي. ويعلمني أبي كيف أحب أمي. ومعًا -أمي وأبي- يعلّماني كيف أكتب نفسي وكيف أكون«.

                                                                                                          21 مارس 2017

الأحد، 18 مارس 2018

ألعاب مكسورة



«صدري كالحديقة. صدري كالحديقة مغمور بموسيقى مكتوبة. وقلبي اليوم شجرة كبيرة قديمة رأسها محاصرةٌ بسقف لا وجود له. تهرب العصافير وتنام في جحورها الخفية. أقرأ الموسيقى في رأسي. أوراقي إما قصيرة أو صفراء جافة. لا يمكنني نطق هذه النوتة أو غناء ذاك المقام. قلبي اليوم شجرة تسيل الموسيقى في أوردتها دون أن يسمعها أحد. يهرب قلبي وينام في جحره. شجرة عتيقة هائلة ملتفة مثل قطة كانت مذعورة قبل أن تغط في نومها -في جحرها، تحت أغطية دافئة منطفئة الألوان. أقرأ خمسة أبياتٍ من الشعر. أعزف سلمّا موسيقيًا واحدًا؛ بطيئًا ومهزوزًا. صدري حديقة والحزن جدارٌ من الضباب. الحزن بحر رأسي تسقط أمواجه ولا تقوم. يتسرب الملح بين جذور حديقتي ويجرح اوردتي. هذا النصّ مكسور ورمادي وملوّث. أذناي أيضًا مكسورتان الليلة، وأصابعي، وقدرتي على الكتابة. أقرأ خمسة أبيات من الشعر: هرميا تصحو من النوم مفزوعة لأن أفعى قد التهمت قلبها الصغير في المنام بينما جلس لايسندر يشاهد مصرعها دون تأثر*. بصعوبة أصعد من الدو إلى الدو، نوتاتي مهزوزة ومترددة وأحيانًا تتوه في صدري فلا تعبر نحاس الترومبيت. أكتب سطرًا واحدًا يقول «هنا الغابة، مرحبًا بكم. جميع الأقنعة التي قد ترتدونها هنا قد تكون حقيقية.» وأنام ساعات طويلة بجوار القطة البيضاء المرتابة دائمًا. أنام أطول مما ينبغي. تمل القطة من النوم فتخمش الباب الأبيض المغلق وتشد أصابعي وتموء وتموء كي أنهض من سريري المنخفض وأُدخل النور. أتأرجح حتى الباب. أغمر نفسي في الماء البارد. أغمض عيوني جميعًا. صدري. البحر. لحاء الشجرة. أصابعي. اللغة. وجودي. القمر الأحمر المعلق في سماء الليلة. الليلُ. الليلة أكتب. أربع دقائق بعد تمام الحادية عشرة. يسيل الوقت. يجرف أوراق الحديقة ويلتهم خضرتها. يزحف الوقت فوق الشجرة في حديقتي حتى يتشقق لحائها وتهتز. يجري الوقت ويطوقني. ينزع عني ثيابي. يلتهم الشمس. يخصم من مساحة الحديقة يومًا آخر. يقطع حبل الأرجوحة. يلوث زجاج شباكي الوحيد. يعصف بعواميد الكتب الصاعدة من أرضية غرفة الدراسة. يتعب الوقت ويتسلل إلى فراشي. ينسى الوقت نفسه ويبلل فراشي. يختبئ ويتركني في أرق أنتظر جفاف الملاءات والأغطية. يدور العالم. تنهض شمس. لا نوم الليلة. ما زال النص 
مكسورًا كوجهي. ما زال 
النصُّ مكسورًا
 كوجهي.
كوجـ
هي
مازال
النصّ
مكسـ
ورً
ا.
أ
نا
أعبث
فقط أعبث
مثل طفل يحاول
أن يخدع طفلة كي تغمض 
عينيها وتتظاهر أنها لا تعرف خلف أي الأشجار سيختبئ (...) وصدري كالحديقة. والقلب شجرة. والبحر العمودي تهبط أمواجه ولا تقوم. والملح في أوردتي –يشبه الدم- والنهر يجري فيه الوقت –سائلًا- لا يتك ولا يدق. تتصاعد الحديقة كالدخان. موسيقى الحديقة تلذع كحبة فلفل حارة. طيور الحديقة تموت مرتاحة في نومها داخل جحورها. الشجرة العتيقة تخلع جلدها دون اكتراث. أنبش أرض الحديقة باحثًا عن مفتاح للنص أو خاتمة تؤطر شتاته ولا أجد. النص مكسور مثل صورتي في عيني. والكتابة تزور حديقتي حين تريد وتحط حيث لا تطالها أصابعي. وأنا –أسير على أرض ضيقة وخطيرة كحبل مشدود بين شجرتين عتيقتين هائلتين فوق غابة ممتدة كمحيط من الأمواج الخضراء والكلمات والقوارب الصغيرة المهجورة...»

                                                                                                                         القاهرة - 16 مارس 2017




* الأبيات المقصودة من مسرحية حلم ليلة منتصف صيف، للزميل شكسبير طبعًا:
"Help me, Lysander, help me; do thy best
To pluck this crawling serpent from my breast!
Ay me, for pity; what a dream was here?
Lysander, look how I do quake with fear:
Methought a serpent ate my heart away
And you sat smiling at his cruel prey."
A Midsummer Night's Dream (2.2.151-6)

الخميس، 8 مارس 2018

أنا؛ من لا لون لي




«أعبر بين الليل والنهار
بهدوء
في عربة تجرها
قناديل بحر زرقاء
/
آثار عجلاتها
مشرط صامت
يشق بطن السماء
في هدوء
تنزف منها شهاب
لامعة
تنطفئ بعيدًا
وسريعًا
مثل حبٍ عابر
/
أهبط من عربتي 
حين أبلغ شاطئ الليل
أخلع أقنعتي 
كلها 
بحرصٍ
أستمر
أنا
من لا لون لي
إلى أن تغمرني تربة الكون
بلونها المسائي الناعس
/
يسيل قلبي
عبر لوني الشفاف
إلى أن تشرب التربة لونه 
وتعبه
يغمض عينيه
ويغفو
وأغمض عيني
وأحلم
أسير على طريق 
مشيّد
يصعد شجرة
يتشظى الطريق خلف كل غصن
فتصعقني احتمالات 
خطواتي 
التي لن تكون
إذا ما اخترت
غصنًا واحدًا أحياه
وأتداعى
كافتتاحية أوركسترا
معكوسة
وأغرق في الأخضر
الناعس
أصابعي
قدميّ
بطني
صدري
يديّ
أصابعي
عينيّ
كلها
خضراء
/
عتمة خضراء
عميقة حد الصحو
أصحو
أنخل التربة من القلب
بحرصٍ
أستأصل قدميّ
من الجذور التي نبتت 
بينما غبت في عتمة الحلم
ثم أمّشط العشب 
بأصابعي
ملتقطًا الألوان
والأقنعة
واحدًا 
بعد الآخر
/
خلف المدى يهتز ثوب الليل
تحت أقدام صبية الفجر
يشّدون الشمس
مثل حوتٍ
هائلٍ
يبزغ
من زرقة البحر
وينساب
نحو سماءٍ
ملأى
بعربات تجرها القناديل
قافلة 
من العربات 
تصطف
يتبعها حوتٌ
يحمل الحقيقة داخل عينٍ
بحجم
البيت
تحدقُ فيكَ
وخلفهم
الصبيةُ
خطواتهم مبعثرة
تصطفُ
كأبجديةً أولى
تزين تكويناتها
ثوب النهار
وأنا
من لا لون لي
أرتدي أقنعتي
وقلبي
ولون الأرض
والحيرة الخضراء
وألتقط حروف اللغات التي 
تسقط عنهم جميعًا
أضع كل منها في إطارٍ 
أصنعه بنفسي
كي يناسب وزن الحرف
وحجم روحه
وجميع مرّات بعثه المحتملة
ومرّات أفوله
على لساني
وفي
قلبي»

الأربعاء، 4 أكتوبر 2017

not A Shipbuilder


Waves - Photograph by Ray Collins

I - am - masquerading in a second language
            in a second language
wondering if I can dismantle all this distress
___this big magnanimous painful sensation 
and reassemble it into a ship
built of images and words-
let me call you a night sea, but unfortunately, not mine
and let me wonder, how could a sane man gaze upon a sea beautiful as you are
and not fall in love?
let me rewrite myself and (re)translate myself into a foreign tongue:
to learn how may I 
unsee 
unlearn
unfeel-
how may I mend the heart the melted [for you]
a sane man gazes upon the sea 
and does not reach out to you
occupied by his vulnerabilities 
a cardboard man
may lose his fingertips
afraid of drowning, he is an expert in drowning and losing himself
repeatedly
and he has decided not to repeat that
but how could a sane man
gaze upon the sincerity pouring out of your voice
and suspends the desire to walk into your waters
your sincerity accompanies me, a kindful sea
-but "sincerity" cannot capture what you are,
it's a an incomplete translation of you, can you see-
I gaze upon you and wonder if my heart could leak from my fingers 
extended 
reaching out towards you
my voice is thin and weak
and I -the sane man- listen 
attentively
to how keen and warm your voice [is] seems to be
I decide "nothing to lose here but my little voice"
that I would gladly lose into you
I imagine my soul lighter as I carry it and push it over the waves
the shackles in my ankles seem lighter too
what do I have to lose?

my voice-thin-and-anxious-a n d - f a l t e r i n g-and-confident-and excited-finally 
childishly
authentically like an old soul
I let his little hand 
so he can run to you
[believing] I am finally ready
against the odds
fuck the odds
and fuck me
and fuck the voice 
that fell down upon me
to teach me again, about life
"I am sorry but it's better to hear this from me
rather than having your love returned broken 
or empty-eyed to you;
this sea has let another man into her heart"
I grabbed his little hand, harshly
necessarily cruel to him - I was cruelty
and dislocated his joints so he may never run to you [again]
so I did lose my voice after all
and I did lose the heaviness of my soul
for I feel numb
and the hollowing void is feeding on its flesh
and I feel stupid, so fuck me
would you kindly teach me now how to hate you?
would you let me learn how to unlove you?

yet you would not-

yet we set together, again
me, crippled and voiceless -an exilic voice, a lost wanderer
on a green bench in a tiny garden
momentarily out of time
deliberately trying to expose myself - deliberately seeming otherwise
beside a night sea, unfortunately not mine, unfairly is gorgeous in black
playing with words,
and hopelessly gazing upon you through the double glass door
[flowing] through the corridor
thinking how I'll ride home to the farthest eastern side of the city I hate
and hug my retarded antisocial persian cat 
[that] who will contently sit and lay and burr beside you
but will never let a stranger touch her
she is probably the most intimate people in my life [now]
and this is probably what I deserve-


however - let’s play a game of semantics
I’ll call this a friendship
and you, believe it
I know you do
I’ll walk by your side
and won’t hold your hand
will sit next to you
and won’t caress your hair
we will talk, and I’ll masquerade my voice in nakedness
and bore you with ten ways to trick [our] writer’s block
and like the smartass I am, I’ll swallow my love
and vomit it -disfigured and dissolved- in words
will show you the ambiguous letters
tell you how I’ve become an expert in burying my feelings
six feet under the white surface of the A4 papers
and six feet behind the vertical depth of this glowing screen-
I’ll be a fake Messiah and do one last miracle
I’ll build my voice a ship
and make it walk on the image of a heavenly night sea
make it ascend, and let it suspend in the metaphorical void of [this] unrequited
voiceless asphyxiated love
will resurrect my voice 
and lead him home-

if such game of semantics had rules
this –for sure- won’t be called love
and I would be nothing
but [the] Fool__





الجمعة، 11 أغسطس 2017

ها هو الدرب - ويليام ستافورد






«هنالك خيط تتتبّعه. يعبر بين
الأشياء التي تتغير؛ لكنه لا يتغيّر.
والناس يتساءلون ما الذي تسعى إليه؛
وعليك أنت أن تحكي لهم عن الخيط.
لكن البصيرة صعبة على الآخرين.
بينما تتمسك به أنت لا يمكن أن تضيع.
تقع المآسي؛ يتأذى الناس
أو يموتون؛ وتعاني أنت وتتقدم في العمر.
لا شيء تفعله قد يوقف جريان الزمن.
والخيط بين يديك لا تتخلى عنه أبدًا».


 *ويليام ستافورد، 
 من مجموعة «ها هو الدرب» 1998
 ترجمة: أحمد حوزة

الخميس، 14 يوليو 2016

ذاكرتي المزيفة، أو صوت بيبه



Hope I - Gustav Klimt



الحقيقة أنني جلست لأكتب أن صوتي أحيانًا ما يأتيني من تحت ماء مجازي يغمرني. الصوت حقيقي. تنفسي مثلًا. ارتداء سمّاعات سواداء صغيرة عازلة للأصوات الخارجية قد ينتج هكذا تأثير. لكن اليوم بدت التجربة مختلفة للحظة قصيرة. بدا الصوت آتيًا من داخل جسدي المغمور في جسد بحر حقيقي هادئ. ارتبكت حين انتبهت مرة أخرى لجلوسي على الكرسي الخرزان والطاولة الخفيفة. ثم ملأني حنين غير مفسر لصوت شيريهان وعبلة كامل وأخريات في عرق البلح وهن يغنين بيبه. «بيبه والسمن سايح/ سايح لفوق» أكتب بيبه والسمن سايح في شريط بحث جوجل، أقرأ النتائج: «أغنية بيبة الأصلية، جودة عالية» «بيبه عرق البلح» «الأغنية البديلة: بيبه –شيريهان وعبلة كامل» لكن ما يلفت نظري فجاة هو مدونة قديمة، ربما مهجورة اسمها «مرارة روح» فقط يقتبس صاحبها عنوان الأغنية، ويضع رابطًا معطلًا لتسجيل لدنيا مسعود وهي تغني بيبه في 2009. أبحث عن التسجيل في أماكن أخرى حتى أجد أكثر من تسجيل لعدد من الحفلات. لكن أداء دنيا مسعود يبدو أسرع وأكثر احتفالية من بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. يعرف صاحب مرارة روح نفسه بأنه غجري لا بيت له، عليك أن تتحمل مسؤولية الجلوس معه وحدك، فهو سيسرق ملابسك ويرتديها إذا ما لائمته. يكتب هذا التعريف بالإنجليزية، ويستخدم علامات ترقيم إنجليزية وسط نصه العربي القصير. لكنني أستمر في البحث عن نسخة بيبه التي تحتفظ بها ذاكرتي. ربما هي خدعة أخرى من خدع الخيال؛ أو أنني فعلًا تلصصت على فتاة ساهية تغني بيبه على مهلها وتبكي خلف أشجار البرتقال في حديقة المكتبة. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة غير الخيال. أخبرتني السيدة التي تجلس في الجهة الأخرى من العالم أنها لن تتمسك بي طويلًا إذا ما تماديت في أفعال التراخي. قالت «يا بني» لم أتوقع ان تتمسك بي للحظة واحدة أخرى. قالت السيدة اكتب، انت ممتلئ بالطاقة والموهبة. قالت ترجم، لغتك جميلة ومحكمة. تنهدت الفتاة الباكية خلف صف أشجار البرتقال ونكشت في العشب بأصابعها البيضاء الدقيقة. ابتسمت أمي وأغلقت الباب ونزلت درجات السلم على مهلها في هدوء. صفق الأخ الأصغر باب غرفته في عنفوان مضحك وغضب ممسرح. وجلست أنا، أو هربت منهم جميعًا. بيبه والسمن سايح. تستكشف الأخت الصغرى عتبات القراءة، وتغيب الأخت الأكبر ساعات طويلة تغزل خيوطها الملونة الجديدة. بيبه والصعيد مات. يحمل أبي سكينه اللامعة، ويقطع الحائط قطعًا صغيرة ملائمة للأكل. يقطع الأشجار، وقطعة الأرض، والحيوانات المدجنة والسكاكين الأصغر وقواعد النحو. رشة شطة حمراء صغيرة، تصبح المكونات جميعها متشابهة. بيع النخل يا أحمد علي، بيع نخلنا كله. وأجلس أنا تحت أكوام قطع الأحاجي التي تحيط بمقعدي، أترجم دماءً ودموعًا تسيل من تقرير مكتوب بعربية ركيكة إلى إنجليزية متماسكة. وأحاول أن أعزل نزفه عن مشروع مقالة أحاول كتابتها منذ أسابيع طويلة. تسألني السيدة الأخرى عن مقالي الموعود فأهرب منها، وأتمادى في الهرب. يا أحمد علي يا أحمد علي، النخل راح ضله. وحين أحاول أن أتكوّر في بطن الماء أجد الشاطئ ضحلًا. يقيدني أبي من قلبي. يقول لا تذهب فيبلعك الغياب. لا تحاول قد تلتهمك الغربة. ولا أحاول. لكن قطع الأحاجي تذوب، مثل قوالب شمع متقنة الصنع. تذوب وتتمازج. تحتال الأحجية على نفسها، تتماسك دون أن تتحدث إلي، أو إلى أي أحد. كيف أحل قطع الأحجية المنصهرة داخل بعضها البعض؟ تذوب الأحاجي وتصبح نجمًا صغيرًا معلقًا في سقف غرفتي الفستدقية في خيالي، يملأ فضائها؛ ويأتي الليل فأصبح قمرًا باردًا وأغرق، أنا والصوت الذي أحمله في صدري والكتابة المعلقة على أطراف أصابعي، نغرق سويًا في جحيم نجم الأحاجي. تغلفني صهارة الأحاجي بطبقات ملونة، مثل أصداف لينة تتطابق مع ثنايا جسدي الأبيض الممتلئ. أتكور داخل نجم الأحاجي، وداخل جسدي؛ أتكوّر داخل رحم الأصوات. طبقات الشمع تسد مداخل حواسي جميعها، فقط أنصت للصوت القادم من هناك البعيد، من داخلي أنا. يأتيني الصوت غامضًا، مثل نفسٍ أخرى ظهرت فجأة تهمس من تحت ماء مجازي يغمرني. بيبه والسمن سايح. سايح لفوق. سايح لفوق. تطلع الشمس في عربة تجرها العصافير الرمادية الصغيرة. تبكي شمس الصباح فتركض العصافير في دهاليز السماء تبحث عمّا يلهيها. آسف، العصافير لا تركض. تقفز العصافير الرمادية الصغيرة بين السماوات الهشة المرتبة فوق بعضها؛ تهبط السلالم المصنوعة من أوراق شجرة التين. يحط عصفور رمادي صغير على عتبة شباك الغرفة في خيالي. يحرك رأسه في عصبية. يتقافز في خط أفقي محاولًا التلصص. محاولًا الإنصات للصوت المكتوم الهامس بالداخل. يهرب العصفور. –أو هكذا يبدو- يرجع العصفور فجأة. يتعلق بأصابعه المخلبة الصغيرة على وجه الشباك، يتعلق مقلوبًا. يحرك رأسه في عصبية، ينظر بعين واحدة في كل مرة. يرفع رأسه نحو الشمس المتكئة على بر النيل الغربي –نعم الغربي لأن هذه الجهة من بلدتي الصغيرة مشيدة فقط في خيالي، خلف شجرة البونسيانا التي لم تعد موجودة هي أيضًا- فتسكت الشمس، وتصمت العصافير والسماوات الصغيرة وجيوش الجيران المزعجين. يغمض العصفور عينيه وينقر وجه الشباك نقرة واحدة فيتداعى عالم الغرفة [سكتة] ولا ينهار. –هل من حقي أن أضيف توجيهات مسرحية إلى نصٍ منزوع الهوية؟ وهل يضيف المسرحيون توجيهاتهم في متن النصوص؟- عالم الغرفة لا يتداعي فجأة [كما قد تفترض الصورة المعتادة لمثل هذه المشاهد]. فقط يتفكك؛ ينفصل؛ يتمايز. الألوان تتنافر وتبتعد، خيوط النسيج تتخلى عن بعضها، يسيل الغراء وتخرج المسامير الصغيرة من أخشاب الشباك وأركان السرير والكرسي والطاولة. وينطفئ نجم الأحاجي. تتقاطر الأحاجي عن ظهري وبطني، ومن فتحات أذني وعيني ثم تُخلي تجويف صدري. تتخلى الحوائط عن تماسكها، يسيل الاسمنت ثم يتفكك بدوره إلى ماء ورمل وهبو رمادي دقيق. تصّاعد قطع الأحجية وتسقط على سقف الغرفة، ترسم غابة صغيرة  وتتركني مغلفًا في صوتي، معلقًا في الفضاء الذي كانت تحتويه الغرفة. يقفز العصفور فوق مفردات الغرفة ويحط فوق الجسد الأبيض المغلف في الصوت المكتوم –جسدي. يحرك العصفور رأسه في عصبية، يصدر صوتًا لا يشبه العصافير، ويعض صوتي بمنقاره الدقيق ويغرس فيه أصابعه المخلبة ويشد بكل قوته، بمنقاره ورقبته وعضلات صدره وسيقانه الدقيقة. ينتزع مزعة بحجم منقاره فينفجر كيس الصوت ويتمزق، يسقط الجسد، أذرعه وسيقانه ثقيلة ومرتخية –جسدي. ثم تسّاقط الأعين والآذان [أتركها في صيغة الجمع لسبب غير معلوم، ربما ملائمة صوتها لاندفاع النص الذي أكسره الآن؟] ثم قطع الجلد، ثم الأنف والشفاه وأسنانه الضعيفة وألسنته العديدة. ثم تصّاعد قطع الجسد وتسقط في الغابة المعلقة على سقف الغرفة، تنغرس بين الأشجار أو تلتحم بأطراف أغصانها وتتدلى، تسّاقط الأضلع والأحشاء، يسّاقط الجسد –جسدي، ويملئ الفراغ بيني وبين الغابة. كل المفردات تفككت عدا الصوت –صوتي الأزرق- بقي معلقًا في مكانه، يهتز؛ لا يسقط أو ينهار. يصدر الطائر صوتًا لا يشبه العصافير، فتفيض العصافير عبر كل السماوات الصغيرة، تنزع الأعين والآذان عن أغصان الشجر، تمزق الأحشاء المعلقة بين شجرتين، تُفكك القلب إلى خيوط صغيرة، تحمل الأصابع وأسنان القلم وحروف اللسان؛ تحمل العصافير ما تحمله وتطير تعصف بفضاء غرفتي ثم تندفع داخل قلب الغابة النابتة على سقف الغرفة وتغيب، تنظف العصافير جميع أركان الغرفة وثناياها، تنظف جميع آثار غلالة الصوت التي غلفت جسدي، جففت قطرات الدم الصغيرة المعلقة في فضاء الغرفة وحملتها بعيدًا. تأكدت من محو بصمات أصابعي جيدًا، جمعت ريشاتها التي سقطت. خلعت أوراق الأشجار، ثم وريقاتها، ثم الأغصان والجذوع. كأن الغابة الصغيرة والغرفة الصغيرة والعصافير والسماوات انفجرت إلى الداخل، تداعت على نفسها حتى اختفت. وبقي الصوت –صوتي- معلقًا وحده، ينبض في الفضاء الأبيض. [هل تؤثر القفزة من زمن المضارع إلى الماضي على إيقاع النص، هل تفسده؟] تركض العصافير، وتنثر ما جمعته في خيط طويل ممتدد بين النهار والليل؛ تنثر الألعاب الغرائبية أمام الشمس، فتتوقف عن بكائها، وتسيرُ، طفلةً مسحورةً على الدرب المخادع. تمرُّ الشمس أمام فضائي الأبيض ويسقط نورها دون أن تدري على الصوت المعلّق –صوتي- فينفذ خلاله وينثر ظله الشفاف، يطلي به ذكرى مساحاتِ غرفة لم تكن/ لم تعد موجودة. تعبر الشمس، وينسحب نورها. لا شيء حقيقي في هذه الكتابة إلا صوتي العاري المكشوف؛ لا شيء حقيقي غير الحروف السابحة حول الصوت محاولة تكوين نفسٍ جديدة سليمة. عين، وياءٌ، نون. همزةٌ ذالٌ نون. قاف لام باء/ قلب. قـ ـلـ ــم. خطوة. صوت. الصوت يهمس. الصوت ينبض. الحرف يخطو. القلم يدور. بيبه (...).